{الر} من الحروف المقطعة في القرآن التي تحدثنا عن الوجوه المتصوّرة فيها في أوّل تفسير سورة البقرة .{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَتُهُ} أي أحكمت آيات هذا الكتاب ،والمراد بالإحكامفي ما يذكره صاحب تفسير الميزان«ربط بعض الشيء ببعضه الآخر ،وإرجاع طرف منه إلى طرف آخر بحيث يعود الجميع شيئاً واحداً بسيطاً غير ذي أجزاء وأبعاض »[ 1] .{ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}والمراد بالتفصيلفي رأيههو إيجاد الفصل بين أجزاء الشيء المتصل بعضها ببعض ،والتفرقة بين الأمور المندمجة كلٌ منها في أخر .وقد أوضح ذلك بقوله: «وعلى هذا فكون آيات الكتاب محكمةً أوّلاً ثم مفصلةً ثانياً ،معناه أن الآيات الكريمة القرآنية على اختلاف مضامينها ،وتشتت مقاصدها وأغراضها ،ترجع إلى معنى واحد بسيط وغرض فارد أصلي لا تكثّر فيه ،ولا تشتت ،بحيث لا تروم آية من الآيات الكريمة مقصداً من المقاصد ،ولا ترمي إلى هدف إلا والغرض الأصلي هو الروح الساري في جثمانه ،والحقيقة المطلوبة منه .
فلا غرض لهذا الكتاب الكريم على تشتت آياته وتفرِّق أبعاضه إلا غرضٌ واحد متوحد ،إذا فصّل كان في مورد أصلاً دينياً ،وفي آخر أمراً خلقياً ،وفي ثالث حكماً شرعياً ،وهكذا كلّ ما تنزّل من الأصول إلى فروعها ،ومن الفروع إلى فروع الفروع لم يخرج من معناه الواحد المحفوظ ،ولا يخطىء غرضه ،فهذا الأصل الواحد بتركبه يصير كل واحد واحداً من أجزاء تفاصيل العقائد والأخلاق والأعمال ،وهي بتحليلها وإرجاعها إلى الروح الساري فيها الحاكم على أجسادها تعود إلى ذاك الأصل الواحد .
فتوحيده تعالى بما يليق بساحة عزه وكبريائهمثلاً في مقام الاعتقادهو إثبات أسمائه الحسنى وصفاته العليا ،وفي مقام الأخلاق هو التخلُّق بالأخلاق الكريمة من الرضى ،والتسليم ،والشجاعة ،والعفة ،والسخاء ،ونحو ذلك ،والاجتناب عن الصفات الرذيلة ،وفي مقام الأعمال والأفعال الإتيان بالأعمال الصالحة ،والورع عن محارم الله »[ 2] .
مناقشة مع صاحب الميزان
وقد يكون هذا التفسير جميلاً ،في ما يوحي به من ارتكاز الخط العقيدي ،والأخلاقي ،والعملي ،على قاعدة واحدة وهي التوحيد الخالص ،ولكننا لا نجد في سياق الآيات ما يدل على تعيينه ،كما لا نلاحظ في كلمتي الإحكام والتفصيل ما يوحي بذلك ،لأن المفسّر الجليل ،لاحظ في الآية المقابلة بين الكلمتين ،فاعتبر الإحكام في مقابل التفصيل ،مما يعني أن هناك شيئاً مجموعاً أريد تفصيله ،وذلك من خلال تواردهما على موقع واحد .
ولكننا نستقرب تفسير كلمة الإحكام بالإتقان في ما يريده الله من عدم وجود خلل في ترتيب هذه الآيات وتنظيمها ،ودلالتها على المعاني بوضوح كما يكون المراد من التفصيلفي ما يظهرالأسلوب المبسّط الذي يعمل على توضيح الأفكار وتنويعها ،بطريقة واضحة لا مجال فيها للغموض والإبهام الحاصل من الإجمال في عرض الفكرة .وبذلك تكون الآيةوالله العالمواردةً في سياق التعرُّض للجانب الفني للآيات ،من حيث الشكل المتضمن في تركيب الكلمات وتأليفها ،بالمستوى الذي لا يوجد فيها أيّة ثغرة لجهة توازن الحركة الفنية وتكاملها ،ولجهة المحتوى ،الذي يتضمّن تفصيل الأفكار وتوضيحها ،في ما يريد القرآن أن يبلّغه للناس من أحكام ومفاهيم بالطريقة التي لا لبس فيها ولا خفاء .
وقد تكرّر الحديث في القرآن عن هاتين النقطتين ،للإيحاء بمدى ما يتوفر عليه من عناصر البلاغة التي تجمع إلى جانب التماسك والدقّة في الأسلوب ،الوضوح في العرض الحاصل من تفصيل الفكرة ..والله العالم بحقائق آياته .