إنما هي زجرة واحدة
ثمة سؤال يبرز هنا وهو: ما هي مواقع هذه المعاني في حركة الواقع ؟ومن هي ،أو ما هي المخلوقات التي تنزع وتنشط وتسبح وتسبق وتدبّر ؟وهل المقصود بكل هذه الكلمات معنى واحدٌ ،أم أن بعضها يختلف عن البعض في مصداقه ؟قيل في ذلك: إنها الملائكة نازعات للأرواح نزعاً شديداً ،ناشطاتٍ منطلقاتٍ في حركاتها سابحاتٍ في العوالم العليا ،سابقاتٍ للإيمان أو للطاعة لأمر ربها ،مدبّراتٍ ما يوكل من الأمور إليها .
وقيل: إنها النجوم تنزع في مداراتها ،وتتحرك وتنشط متنقلةً من منزلٍ إلى منزلٍ ،وتسبح سبحاً في فضاء الله ،وهي معلقةٌ به ،وتسبق سبقاً في جريانها ودورانها ،وتدبر من النتائج والظواهر ما وكله الله إليها مما يؤثّر في حياة الأرض ومن عليها .
وقيل: النازعات ،والناشطات ،والسابحات ،والسابقات ،هي النجوم ،والمدبِّرات هي الملائكة .
رأي صاحب الميزان
ويختار صاحب الميزان الرأي الأول ،وذلك لعدّة أمور:
منها: أنَّ"الآيات شديدة الشبه سياقاً بآيات مفتتح سورة الصافات:{وَالصَّافَّاتِ صفَّا* فَالزَاجِرَاتِ زَجْراً* فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} [ الصافات:1 3] وآيات مفتتح سورة المرسلات{وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً* فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً*والناشِرَاتِ نَشْراً* فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً* فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً}[ المرسلات:15] وهي تصف الملائكة في امتثالهم لأمر الله ،غير أنها تصف ملائكة الوحي ،والآيات في مفتتح هذه السورة تصف مطلق الملائكة في تدبيرهم أمر العالم بإذن الله .
ثم إن أظهر الصفات المذكورة في هذه الآيات الخمس في الانطباق على الملائكة قوله:{فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} ...وإذ كان قوله:{فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} مفتتحاً بفاء التفريع الدالة على تفرّع صفة التدبير على صفة السبق ،وكذا قوله:{فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً} مقروناً بفاء التفريع الدالة على تفرّع السبق على السبح ،دلّ ذلك على مجانسة المعاني المرادة بالآيات الثلاث{وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً* فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً* فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} فمدلولها أنهم يدبرون الأمر بعد ما سبقوا إليه ،ويسبقون إليه بعد ما سبحوا ،أي أسرعوا إليه عند النزول ...
وإذا كان المراد بالآيات الثلاث الإشارة إلى إسراع الملائكة في النزول على ما اَمروا به من أمر وسبقهم إليه وتدبيره ،تعيَّن حمل قوله:{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً*وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} على انتزاعهم وخروجهم من موقف الخطاب إلى ما أمروا به ،فنزعهم غرقاً شروعهم في النزول نحو المطلوب بشدّةٍ وجدٍّ ،ونشطهم خروجهم من موقفهم نحوه ...
فالآيات الخمس إقسامٌ بما يتلبس به الملائكة من الصفات عندما يؤمرون بتدبير أمر من أمور هذا العالم المشهود ،من حين يأخذون في النزول إليه إلى تمام التدبير » .
ولنا ملاحظة على الوجه الأوّل ،وهو أن هناك خلافاً في المراد بالصافات والمرسلات في ما هو المراد منها ،وليس هناك اتفاق على إرادة الملائكة منها .وعلى الوجه الثاني: أن الفاء هنا لا ظهور لها في التفريع ،فيمكن أن تكون لمجرد العطف على نحو الترتيب الذكري ،من دون ارتباط لأحدها بالآخر .وقد لا نجد ضرورةً في تنوّع المعنى المراد من هذه الفقرات ،لأن المسألة هي مسألة القسم بهذه الأمور المهمّة ،كما يمكن أن يكون المراد منها كل ما صدق عليه المعنى من المخلوقات التي يتناسب مضمونها مع العناوين المأخوذة فيها ،لأن كل موجود في الكون له سرّه الذي يمثل الأهمية المميزة التي تجعل له قيمةً كونيةً تجعله في مستوى القسم به ،والله العالم .
وربما كانت هذه الكلمات واردةً في الأجواء التي تسبق القيامة أو تتحرك في داخلها ،بعيداً عن أسلوب القسم ،باعتبار أنّ ذلك يوحي بالجو الحركيّ الذي يهز المشاعر التي تتصور المسألة هناك في حركة العنف المتمثل بالنزع والنشط والسبح والسبق والتدبير ،للإيحاء بالجدّية المسؤولة التي لا يملك أحد أمامها أن يواجه القضية باللاّمبالاة العبثية والاسترخاء الغافل ،ليكون ارتباط هذه الفقرات بما بعدها ارتباطاً طبيعياً باعتباره من أجواء هذا اليوم .