{إنا أنزلناه في ليلة القدر}{إنا أنزلناه} الضمير هنا يعود إلى الله عز وجل ،والهاء في قوله{أنزلناه} يعود إلى القرآن ،وذكر الله تعالى نفسه بالعظمة{إنا أنزلناه} لأنه سبحانه وتعالى العظيم الذي لا شيء أعظم منه ،والله تعالى يذكر نفسه أحياناً بصيغة العظمة مثل هذه الآية الكريمة{إنا أنزلناه في ليلة القدر} ،ومثل قوله تعالى:{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [ الحجر: 9] ،ومثل قوله تعالى:{إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} [ يس: 11] .وأحياناً يذكر نفسه بصيغة الواحد مثل{إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} [ طه: 14] ،وذلك لأنه واحد عظيم ،فباعتبار الصفة يأتي ضمير العظمة ،وباعتبار الوحدانية يأتي ضمير الواحد .والضمير في قوله:{أنزلناه} ضمير المفعول به وهي الهاء يعود إلى القرآن وإن لم يسبق له ذكر ؛لأن هذا أمر معلوم ،ولا يمتري أحد في أن المراد بذلك إنزال القرآن الكريم ،أنزله الله تعالى في ليلة القدر ،فما معنى إنزاله في ليلة القدر ؟الصحيح أن معناها: ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر ،وليلة القدر في رمضان لا شك في هذا ،ودليل ذلك قوله تعالى:{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} [ البقرة: 185] ،فإذا جمعت هذه الآية أعني{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} إلى هذه الآية:{إنا أنزلناه في ليلة القدر} تبين أن ليلة القدر في رمضان ،وبهذا نعرف أن ما اشتهر عند بعض العامة من أن ليلة القدر هي ليلة النصف من شهر شعبان لا أصل له ،ولا حقيقة له ،فإن ليلة القدر في رمضان ،وليلة النصف من شعبان كليلة النصف من رجب ،وجمادى ،وربيع ،وصفر ،ومحرم وغيرهن من الشهور لا تختص بشيء ،حتى ما ورد في فضل القيام فيها فهو أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة ،وكذلك ما ورد من تخصيص يومها وهو يوم النصف من شعبان بصيام فإنها أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة ،لكن بعض العلماء - رحمهم الله - يتساهلون في ذكر الأحاديث الضعيفة فيما يتعلق بالفضائل: فضائل الأعمال ،أو الشهور ،أو الأماكن ،وهذا أمر لا ينبغي ،وذلك لأنك إذا سقت الأحاديث الضعيفة في فضل شيء ما ،فإن السامع سوف يعتقد أن ذلك صحيح ،وينسبه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ،وهذا شيء كبير ،فالمهم أن يوم النصف من شعبان وليلة النصف من شعبان لا يختصان بشيء دون سائر الشهور ،فليلة النصف لا تختص بفضل قيام ،وليلة النصف ليست ليلة القدر ،ويوم النصف لا يختص بصيام ،نعم شهر شعبان ثبتت السنة بأن النبي صلى الله عليه وسلّم يكثر الصيام فيه حتى لا يفطر منه إلا قليلاً ،وما سوى ذلك مما يتعلق بصيامه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم إلا ما لسائر الشهور ،كفضل صوم ثلاثة أيام من كل شهر ،وأن تكون في الثالث عشر ،والرابع عشر ،والخامس عشر ،وهي الأيام البيض .
وقوله تعالى:{في ليلة القدر} من العلماء من قال: القدر هو الشرف ،كما يقال:( فلان ذو قدر عظيم ،أو ذو قدر كبير ) ،أي ذو شرف كبير ،ومن العلماء من قال: المراد بالقدر التقدير ؛لأنه يقدر فيها ما يكون في السنة لقول الله تعالى:{إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين .فيها يفرق كل أمر حكيم} [ الدخان: 3 ،4] .أي يفصل ويبين .
والصحيح أنه شامل للمعنيين ،فليلة القدر لا شك أنها ذات قدر عظيم ،وشرف كبير ،وأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة من الإحياء والإماتة والأرزاق وغير ذلك .