فالإضافة الثالثة:إضافة الإلهية ، فهو إلههم الحق ، ومعبودهم الذي لا إله لهم سواه ، ولا معبود لهم غيره ، فكما أنه وحده هو ربهم ومليكهم لم يشركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد ، فكذلك هو وحده إلههم ومعبودهم ، فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكا في إلهيته ، كما لا شريك معه في ربوبيته وملكه .
وهذه طريقة القرآن الكريم يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة .
وإذا كان وحده هو ربنا ومالكنا وإلهنا ، فلا مفزع لنا في الشدائد سواه . ولا ملجأ لنا منه إلا إليه ، ولا معبود لنا غيره ، فلا ينبغي أن يدعى ولا يخاف ولا يرجى ، ولا يحب سواه ، ولا يذل لغيره ، ولا يخضع لسواه ، ولا يتوكل إلا عليه ؛ لأن من ترجوه وتخافه وتدعوه وتتوكل عليه:إما أن يكون مربيك والقيم بأمورك ، ومولي شأنك وهو ربك ، فلا رب سواه ، أو تكون مملوكه وعبده الحق ، فهو ملك الناس حقا ، وكلهم عبيده ومماليكه ، أو يكون معبودك ، وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين ؛ بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى حياتك وروحك ، وهو الإله الحق إله الناس الذي لا إله لهم سواه .
فمن كان ربهم وملكهم وإلههم فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره ، ولا يستنصروا بسواه ، ولا يلجئوا إلى غير حماه ، فهو كافيهم وحسبهم وناصرهم ووليهم ، ومتولي أمورهم جميعا بربوبيته وملكه وإلهيته لهم ، فكيف لا يلتجئ العبد عند النوازل ونزول عدوه به إلى ربه ومالكه وإلهه ؟
فظهرت مناسبة هذه الإضافات الثلاث للاستعاذة:من أعدى الأعداء وأعظمهم عداوة ، وأشدهم ضررا ، وأبلغهم كيدا .
ثم إنه سبحانه كرر الاسم الظاهر ، ولم يوقع المضمر موقعه فيقول:رب الناس وملكهم وإلههم تحقيقا لهذا المعنى ، وتقوية له ، فأعاد ذكرهم عند كل اسم من أسمائه ، ولم يعطف بالواو لما فيهم من الإيذان بالمغايرة .
والمقصود:الاستعاذة بمجموع هذه الصفات حتى كأنها صفة واحدة .
وقدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب .
وأخر الإلهية لخصوصها ؛ لأنه سبحانه إنما هو إله من عبده ووحده واتخذه دون غيره إلها . فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه ، وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه ، ولكن المشرك ترك إلهه الحق ، واتخذ إلها غيره باطلا .
ووسط صفة الملك بين الربوبية والإلهية ؛ لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره ، فهو المطاع إذا أمر . وملكه لهم تابع لخلقه إياهم ، فملكه من كمال ربوبيته ، وكونه إلههم الحق من كمال ملكه ، فربوبيته تستلزم ملكه وتقتضيه ، وملكه يستلزم إلهيته ويقتضيها ، فهو الرب الحق ، الملك الحق ، الإله الحق ، خلقهم بربوبيته ، وقهرهم بملكه ، استعبدهم بإلهيته .
فتأمل هذه الجلالة ، وهذه العظمة ، التي تضمنتها هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام ، وأحسن سياق:{ رب الناس * ملك الناس * إله الناس} .
وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان ، وتضمنت معاني أسمائه الحسنى .
أما تضمنها لمعاني أسمائه الحسنى:
فإن الرب:هو القادر الخالق ، البارئ المصور ، الحي القيوم ، العليم السميع البصير ، المحسن المنعم ، الجواد المعطي ، المانع ، الضار النافع ، المقدم المؤخر ، الذي يضل من يشاء ، ويهدي من يشاء ، ويسعد من يشاء ، ويشقي من يشاء ، ويعز من يشاء ، ويذل من يشاء ، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقه من الأسماء الحسنى .
وأما الملك:فهو الآمر الناهي ، المعز المذل ، الذي يصرف أمور عباده كما يحب ، ويقلبهم كما يشاء ، وله من معنى الملك ما يستحقه من الأسماء الحسنى ، كالعزيز ، الجبار ، المتكبر ، الحكم ، العدل ، الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، العظيم ، الجليل ، الكبير ، الحسيب ، المجيد ، الوالي ، المتعالي ، مالك الملك ، المقسط ، الجامع ، إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك .
وأما الإله:فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال . فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى ، ولهذا كان القول الصحيح:أن «الله » أصله الإله . كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه ، إلا من شذ منهم ، وأن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى .
فقد تضمنت هذه الأسماء الثلاثة جميع معاني أسمائه الحسنى ، فكان المستعيذ بها جديرا بأن يعاذ ويحفظ ، ويمنع من الوسواس الخناس ، ولا يسلط عليه .
وأسرار كلام الله أجل وأعظم من أن تدركها عقول البشر ، وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها على ما وراءه ، وإن باديه إلى الخافي يسير .