قال تعالى عن نوح عليه السلام{ وتركنا عليه في الآخرين * سلام على نوح في العالمين * إنا كذلك نجزي المحسنين} [ الصافات:78 . 80] .
وقال عن إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم:{ وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم} [ الصافات:108 . 109] .
وقال في موسر وهارون – عليهما السلام -:{ وتركنا عليهما في الآخرين * سلام على موسى وهارون} [ الصافات:130] .
فالذي تركه سبحانه على رسله في الآخرين:هو السلام عليهم المذكور .
وقد قال جماعة من المفسرين - منهم مجاهد وغيره -:{ وتركنا عليهما في الآخرين} الثناء الحسن ، ولسان الصدق للأنبياء كلهم . وهذا قول قتادة أيضا . ولا ينبغي أن يحكى هذا قولين للمفسرين ، كما يفعله من ليس له عناية بحكاية الأقوال ، بل هما قول واحد . فمن قال:إن المتروك هو السلام عليهم في الآخرين نفسه ، فلا ريب أن قوله:«سلام على نوح » جملة في موضع نصب بتركنا . والمعنى:أن العالمين يسلمون على نوح ومن بعده من الأنبياء .
ومن فسره بلسان الصدق والثناء الحسن . نظر إلى لازم السلام وموجبه ، وهو الثناء عليهم ، وما جعل لهم من لسان الصدق الذي لأجله إذا ذكروا سلم عليهم .
وقد زعمت طائفة – منهم:ابن عطية وغيره - أن من قال:تركنا عليه ثناء لها حسنا ولسان صدق . كان{ سلام على نوح في العالمين} جملة ابتدائية ، لا محل لها من الإعراب . وهو سلام من الله سلم به عليه .
قالوا:فهذا السلام من الله أمنة لنوح في العالمين أن يذكره أحد بشر - قاله الطبراني .
وقد يقوي هذا القول:أنه سبحانه اخبر أن المتروك عليه هو في الأخرى وأن السلام عليه في العالمين ، وبأن ابن عباس رضي الله عنهما قال:أبقى الله عليه ثناء حسنا .
وهذا القول ضعيف لوجوه:
أحدهما:أنه يلزم منه حذف المفعول لتركنا ولا يبقى في الكلام فائدة على التقدير ، فإن المعنى يؤول إلى:أنا تركنا عليه في الآخرين أمرا لا ذكر له في اللفظ . لأن السلام عند هذا القائل منقطع بما قبله ، لا تعلق له بالفعل .
الثاني:أنه لو كان المفعول محذوفا كما ذكره لذكروه في موضع واحد ، ليدل على المراد منه حذفه . ولم يطرد في جميع من أخبر أنه ترك عليه في الآخرين الثناء الحسن . وهذه طريقة القرآن ، بل وكل كلام فصيح:أن يذكر الشيء في موضع ثم يحذفه في موضع آخر ، لدلالة المذكور على المحذوف . وأكثر ما تجده مذكورا وحذفه قليل .
وإما أن يحذف حذفا مطردا ولم يذكره في موضع واحد ، ولا في اللفظ ما يدل عليه . فهذا لا يقع في القرآن .
الثالث:أن في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه:«وتركنا عليه في الآخرين . سلاما » بالنصب وهذا وهذا يدل على أن المتروك هو السلام نفسه .
الرابع:أنه لو كان السلام منقطعا مما قبله لأخل ذلك بفصاحة الكلام وجزالته ، ولما حسن الوقوف على ما قبله .
وتأمل هذا بحال السامع إذا سمع قوله:{ وتركنا عليهما في الآخرين} كيف يجد قلبه متشوقا متطلعا إلى تمام الكلام واجتناء الفائدة منه ، ولا يجد فائدة الكلام انتهت وتمت ، ليظهر عندها ، بل يبقى طالبا لتمامها وهو المتروك . فالوقف على{ الآخرين} ليس بوقف تام .
فإن قيل:فيجوز حذف المحذوف من هذا الباب ، لأن «ترك » هنا بمعنى «أعطى » لأنه أعطاه ثناء حسنا أبقاه عليه في الأخرى ويجوز في باب «أعطى » وذكر المفعولين وحذفهما والاقتصار على أحدهما:وقد وقع ذلك في القرآن . كقوله:{ إنا أعطيناك الكوثر} [ الكوثر:1] ، فذكرهما . وقال تعالى:{ فأما من أعطى} [ الليل:5] فحذفهما . وقال تعالى:{ ولسوف يعطيك ربك} [ الضحى:5] فحذف الثاني ، واقتصر على الأول . وقال:{ يؤتون الزكاة} فحذف الأول . واقتصر على الثاني .
قيل:فعل الإعطاء فعل مدح ، لفظه دليل على أن المفعول المعطى قد ناله عطاء المعطي والإعطاء إحسان ونفع وبر ، فجاز ذكر المفعولين وحذفهما والاقتصار على أحدهما بحسب الغرض المطلوب من الفعل .
فإن كان المقصود إيجاد ماهية الإعطاء المخرجة للعبد من البخل والشح والمنع ، المنافي للاحسان ذكر الفعل مجردا . كما قال تعالى:{ فأما من أعطى واتقى} ولم يذكر ما أعطى ، ولا من أعطى . وتقول فلان يعطي ويتصدق ويهب ويحسن ،
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت » .
لما كان المقصود بهذا تفرد الرب سبحانه بالعطاء والمنع لم يكن لذكر المعطى ولا لحظ المعطى معنى ، بل المقصود:أن حقيقة الإعطاء والمنع إليك لا إلى غيرك ، بل أنت المتفرد بها ، لا يشركك فيها أحد ، فذكر المفعولين هنا يخل بتمام المعنى وبلاغته .
وإذا كان المقصود ذكرهما ذكرا معا كقوله تعالى:{ إنا أعطيناك الكوثر} [ الكوثر:1] فإن المقصود إخباره لرسوله صلى الله عليه وسلم بما خصه به وأعطاه إياه من الكوثر . ولا يتم هذا إلا بذكر المفعولين . وكذا قوله تعالى:{ ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا} [ الإنسان:8] .
وإذا كان المقصود أحدهما فقط اقتصر عليه . كقوله تعالى:{ ويؤتون الزكاة} المقصود به:أنهم يفعلون هذا الواجب عليهم ، ولا يهملونه . فذكره لأنه هو المقصود .
وقوله عن أهل النار:{ لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين} [ المدثر:43 . 44] لما كان المقصود الإخبار عن المستحق للإطعام أنهم بخلوا عنه . ومنعوه حقه من الإطعام ، وقست قلوبهم عنه كان ذكره هو المقصود ، دون ذكر المطعوم وتدبر هذه الطريقة في القرآن ، وذكره للأهم المقصود ، وحذفه لغيره ، يطلعك على باب من أبواب إعجازه وكمال فصاحته .
وأما فعل الترك:فلا يشعر بشيء من هذا ، ولا يمدح به . فلو قلت:فلان يترك لم يكن مفيدا فائدة أصلا ، بخلاف قولك:يطعم ، ويعطي ، ويهب ، ونحوه ، بل لا بد أن تذكر ما يترك . ولهذا لا يقال:فلان يأكل ، ويقال:مطعم ومطعم . ومن أسمائه سبحانه «المعطي » .
فقياس «ترك » على «أعطى » من أفسد القياس .
وقوله:{ سلام على نوح في العالمين} جملة محكية . قال الزمخشري:وتركنا عليه في الآخرين من الأمم . هذه الكلمة - وهي{ سلام على نوح} - يعني يسلمون عليه تسليما . ويدعون له ، وهو من الكلام المحكي ، كقولك:قرأت:سورة أنزلناها .
الخامس:أنه قال:{ سلام على نوح في العالمين} فأخبر سبحانه أن هذا السلام عليه في العالمين ، ومعلوم أن هذا السلام فيهم هو سلام العالمين عليه ، كلهم يسلم عليه ، ويثني عليه ، ويدعو له . فذكره بالسلام عليه فيهم .
وأما سلام الله سبحانه وتعالى عليه . فليس مقيدا بهم ، ولهذا لا يشرع أن يسأل الله تعالى مثل ذلك:فلا يقال:السلام على رسول الله في العالمين ، ولا:اللهم سلم على رسولك في العالمين ، ولو كان هذا هو سلام الله لشرع أن يطلب من الله على الوجه الذي سلم به .
وأما قولهم:«إن الله سلم عليه في العالمين . وترك عليه في الآخرين » .
فالله سبحانه وتعالى أبقى على أنبيائه ورسله سلاما وثناء حسنا فيمن تأخر بعدهم ، جزاء على صبرهم وتبليغهم رسالات ربهم ، واحتمالهم للأذى من أممهم في الله . وأخبر أن هذا المتروك على نوح عليه السلام هو عام في العالمين ، وأن هذه التحية ثابتة فيهم جميعا ، لا يخلون منها . فأدامها عليه في الملائكة والثقلين طبقا بعد طبق ، وعالما بعد عالم مجازاة لنوح عليه السلام بصبره ، وقيامه بحق ربه ، وبأنه أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض . وكل المرسلين بعده بعثوا بدينه ، كما قال تعالى:{ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} [ الشورى:13] .
وقولهم:إن هذا قول ابن عباس ، فقد تقدم . أن ابن عباس وغيره:إنما أرادوا بذلك أن السلام عليهم من الثناء الحسن ولسان الصدق . فذكروا بمعنى السلام عليه وفائدته . والله سبحانه أعلم .