الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ:قَوْله تَعَالَى:{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:انْتَهَى الْعِيُّ بِقَوْمٍ إلَى أَنْ قَالُوا:إنَّ الْقَارِئَ إذَا فَرَغَ من قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ حِينَئِذٍ يَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ .
وَقَالَ الْعُلَمَاءُ:إذَا أَرَادَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ تَعَوَّذَ بِاَللَّهِ ، وَتَأَوَّلُوا ظَاهِرَ"إذَا قَرَأْت"عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَدْت ، كَمَا قَالَ:{ إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ} مَعْنَاهُ ، إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ ، وَكَقَوْلِهِ:إذَا أَكَلْت فَسَمِّ اللَّهَ ؛ مَعْنَاهُ:إذَا أَرَدْت الْأَكْلَ .
وَحَقِيقَةُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ"فَعَلَ"يَحْتَمِلُ ابْتَدَأَ الْفِعْلَ ، وَيَحْتَمِلُ تَمَادِيهِ فِي الْفِعْلِ ، وَيَحْتَمِلُ تَمَامَهُ لِلْفِعْلِ .
وَحَقِيقَتُهُ تَمَامُ الْفِعْلِ وَفَرَاغُهُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ قَوْمٍ أَنَّ حَقِيقَتَهُ كَانَ فِي الْفِعْلِ ، وَاَلَّذِي رَأَيْنَاهُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ الْمَاضِي هُوَ فَعَلَ ، كَمَا أَنَّ بِنَاءَ الْحَالِ هُوَ يَفْعَلُ ، وَهُوَ بِنَاءُ الْمُسْتَقْبَلِ بِعَيْنِهِ . وَيُخَلِّصُهُ لِلْحَالِ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِك الْآنَ ، وَيُخَلِّصُهُ لِلِاسْتِقْبَالِ قَوْلُك سَيَفْعَلُ ، هَذَا مُنْتَهَى الْحَقِيقَةِ فِيهِ . وَإِذَا قُلْنَا:قَرَأَ ، بِمَعْنَى أَرَادَ ، كَانَ مَجَازًا ، وَوَجَدْنَا مُسْتَعْمَلًا ، وَلَهُ مِثَالٌ فَحَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ:وَمَا الْفَائِدَةُ فِي الِاسْتِعَاذَةِ من الشَّيْطَانِ وَقْتَ الْقِرَاءَةِ ؟ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:قُلْنَا:فَائِدَتُهُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ ؛ وَلَيْسَ لِلشَّرْعِيَّاتِ فَائِدَةٌ إلَّا الْقِيَامُ بِحَقِّ الْوَفَاءِ فِي امْتِثَالِهَا أَمْرًا ، أَوْ اجْتِنَابِهَا نَهْيًا .
وَقَدْ قِيلَ:فَائِدَتُهَا الِاسْتِعَاذَةُ من وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ وَمَا أَرْسَلْنَا من قَبْلِكَ من رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أَمْنِيَّتِهِ} ، يَعْنِي:فِي تِلَاوَتِهِ . وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي جُزْءِ تَنْبِيهِ الْغَبِيِّ عَلَى مِقْدَارِ النَّبِيِّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا افْتَتَحَ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ ، ثُمَّ يَقُولُ:سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك ، وَتَبَارَكَ اسْمُك ، وَتَعَالَى جَدُّك ، وَلَا إلَهَ غَيْرُك ، ثُمَّ يَقُولُ:لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ، ثَلَاثًا . ثُمَّ يَقُولُ:اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا ، ثَلَاثًا ، أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، من هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ ) ، ثُمَّ يَقْرَأُ . هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ ، وَاللَّفْظُ لَهُ .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ:( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ فِي صَلَاتِهِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ ) ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَرَى الْقِرَاءَةَ قَبْلَ الِاسْتِعَاذَةِ بِمُطْلَقِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ . وَقَالَ مَالِكٌ:لَا يَتَعَوَّذُ فِي الْفَرِيضَةِ ، وَيَتَعَوَّذُ فِي النَّافِلَةِ ، وَفِي رِوَايَةٍ:فِي قِيَامِ رَمَضَانَ . وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ: "سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك"قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَجْهَرُ بِذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ:( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَيَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ إسْكَاتَةً فَقُلْت:يَا رَسُولَ اللَّهِ إسْكَاتُك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ فِيهِ ؟ قَالَ:أَقُولُ:اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ ، كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي من الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ من الدَّنَسِ ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ ) .
وَمَا أَحَقَّنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ ، لَوْلَا غَلَبَةُ الْعَامَّةِ عَلَى الْحَقِّ .
وَتَعَلَّقَ مَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ بِمَا كَانَ فِي الْمَدِينَةِ من الْعَمَلِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَك أَنَّ أَحَدًا من أَئِمَّةِ الْأُمَّةِ تَرَكَ الِاسْتِعَاذَةَ فَإِنَّهُ أَمْرٌ يُفْعَلُ سِرًّا ، فَكَيْفَ يُعْرَفُ جَهْرًا .
وَمِنْ أَغْرَبِ مَا وَجَدْنَاهُ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ:{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} الْآيَةَ قَالَ:ذَلِكَ بَعْدَ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ لِمَنْ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ ، وَهَذَا قَوْلٌ لَمْ يَرِدْ بِهِ أَثَرٌ ، وَلَا يُعَضِّدُهُ نَظَرٌ ؛ فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْآيَةِ ، وَحَقِيقَتَهَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ:إنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ ، لَكَانَ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ دَعْوَى عَرِيضَةً لَا تُشْبِهُ أُصُولَ مَالِكٍ ، وَلَا فَهْمَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِسِرِّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ .