قوله تعالى:{فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ( 98 )}:
معنى هذه الآية: فإذا أردت قراءة القرآن ،؛لأنه لم يرد تعالى التعوذ بعد القراءة ،وإنما يبدأ بها ثم بالقراءة .وقد اختلف في التعوذ هل هو واجب قبل القراءة أم لا ؟فالجمهور: أنه ليس بواجب وإنما هو مندوب إليه ،وحملوا الأمر في الآية على الندب .وذهب عطاء إلى أنه واجب قبل القراءة ،وحمل الأمر في الآية على الوجوب .واختلف الذين رأوه على الندب ،هل يتعوذ في الصلاة قبل فاتحة الكتاب أم لا ؟فعندنا أنه لا يتعوذ إلا في النفل لمن شاء{[9561]} ،وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه يتعوذ ،وحجتها عموم الآية .وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة ،واختلف القائلون بالاستعاذة هل ذلك في كل ركعة أم لا ؟فقيل: يستعاذ في أول ركعة خاصة .وقيل: يستعاذ في ركعة ،وهو قول ابن سيرين ،وحجة هذا القول عموم الآية .واختلف في لفظ الاستعاذة ،فقيل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ،وإليه ذهب الأكثرون .وروى جبير بن مطعم عن أبيه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة قال:"اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم ،ومن همزه ونفثه ونفخه "{[9562]} وقال إسماعيل القاضي التعوذ: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم .وما قام هذا المقام{[9563]} قوله تعالى:{من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ( 106 )} .
ذكر قوم من المفسرين أن الآية نزلت في أناس من أهل مكة آمنوا ،فكتب إليهم بعض أصحابهم بالمدينة لستم منا حتى تهاجروا إلينا ،وكان فيهم عمار بن ياسر وغيره .فخرجوا يريدون المدينة ،فأدركتهم قريش في الطريق ،ففتنوهم على الكفر ،فكفروا مكرهين فنزلت الآية:{إلا من أكره وقلبه مطمئن}{[9564]} .واتفق العلماء أن من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ،لم يلزمه شيء من أحكام الكفر عند الله تعالى .واختلفوا في إلزامه أحكام الكفر ،فالجمهور على أنه لا يلزمه شيء من أحكام الكفر ،وأن أحكامه أحكام المؤمن .وذهب محمد بن الحسن إلى أن أحكامه أحكام الكافر ،فتبين منه امرأته ،ولا يصلى عليه إن مات ،ولا يرث أباه إن مات مسلما{[9565]} ،ومفهوم الآية حجة القول الأول ،وهذا في الإكراه في القول .ولا خلاف في أن الإثم فيه مرفوع كما قدمنا ،واختلف في الإكراه والعتق والبيع هل هو كالإكراه على النطق بكلمة الكفر أم لا ؟فسوى الشافعي بينهما ،واستدل أصحابه بالآية على نفي طلاق المكره وعتاقه ،وكل قول حمل عليه ،وروى أنه باطل نظرا لما فيه من حفظ حقه كما امتنع الحكم بنفوذ .ردته حفظا لدينه فإذا بلغ الخلاف في ذلك معلوم في المذهب{[9566]} ،واختلف في الإكراه على الفعل مثل: شرب الخمر ،وأكل الخنزير ،أو السجود لغير الله تعالى ،أو الزنا بالمرأة المختارة لذلك المكرهة له على الزنا بها ولا زوج لها ،وما أشبه من ذلك مما لا يتعلق به حق لمخلوق .فقيل: الإكراه فيه إكراه كالإكراه على القول ،وهو قول سحنون{[9567]} ،وقيل: الإكراه لا يكون في ذلك إكراها ينتفع المكره به ،وإلى هذا ذهب ابن حبيب{[9568]} ،ومن حجة من لا يره إكراها: أن الآية إنما نزلت في الإكراه على القول خاصة ،فتقصر على ما نزلت فيه .ومن حجة أهل القول الثاني: أن الإكراه على الفعل كما ذكرنا كالإكراه على القول ينبغي أن يحكم له بحكمه .وأما ما يتعلق به حق لمخلوق كالقتل والغضب ونحو ذلك ،فلا خلاف أن الإكراه فيه غير نافع ،كذا قال بعضهم{[9569]} ،والخلاف فيه معروف في المذهب وغيره ،وكذلك اختلف في يمين المكره هل يلزمه أم لا ؟واتفقوا أن خوف القتل إكراه .واختلفوا في غير ذلك مما لا يخاف منه على النفس وهو مؤلم ،من سجن وقيد ووعيد ونحو ذلك .فالجمهور أن ذلك كله إكراه ،والحجة لهذا القول أن الله تعالى قال:{إلا من أكره} ،فذكر الإكراه مطلقا ،فيحمل على كل ما يكون إكراها ،حتى يقوم دليل على أنه ليس بإكراه ،وأحكام المكره كثيرة لا يليق ذكرها بهذا المختصر{[9570]} قوله تعالى:{إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ( 173 )} .
الميتة: ما مات من حيوان البر مما له نفس سائلة ،حتف أنفه .وأما ما لم يكن له نفس سائلة كالجراد والذباب والبراغيث ودود التين وحيوان الفول ،وما مات من الحوت حتف أنفه أو طفا على الماء – ففي أكله – قولان: أحدهما: الجواز ،والثاني: المنع ،وما مات من الحوت حتف أنفه من الدواب التي تعيش في الماء وفي البر كالسلاحف والضفادع ونحو ذلك ،ففيه قولان .ومن منع: رأى كل ذلك ميتة واحتج بالآية .وقد مر الكلام على جميع أحكام هذه الآية فلا معنى بإعادته ،والله تعالى أعلم .قوله تعالى:{وجادلهم بالتي هي أحسن} ،اختلف في الآية هل هي محكمة أو منسوخة ؟فذهب جماعة إلى أنها منسوخة بآية القتال ؛لأنها اقتضت مهادنة ما{[9571]} ،وقالت جماعة هي محكمة ،والمجادلة بالتي هي أحسن انتهاء إلى ما أمر الله عز وجل به .وقال بعضهم: من أمكنه أن يجادل الكفار ويرى ذلك دون قتال فعل معه ذلك ،والآية على هذا محكمة{[9572]} قوله تعالى:{وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ( 126 )} .ذهب أهل التفسير إلى أن هذه الآية نزلت في شأن التمثيل بحمزة يوم أحد .وذهب النحاس إلى أنها مكية .وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قتل حمزة قال:"لئن أظفرني الله تعالى بهم لأمثلن بثلاثين منهم "{[9573]} وفي كتاب النحاس وغيره بسبعين منهم .فقال الناس: إن ظفرنا لنفعلن ولنفعلن .فنزلت هذه الآية .وعزم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر في هذه الآية بعدها:{واصبر وما صبرك إلا بالله} هل هو منسوخ أو محكم ؟فذهب قوم إلى أنها منسوخة بآية القتال{[9574]} ،والجمهور على أنها محكمة ،ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه:"أما أنا فأصبر كما أمرت ،فما تصنعون ؟"قالوا: نصبر يا رسول الله كما ندبنا .