الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:قَوْلُهُ:{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ}:
النِّفَاقُ فِي الْقَلْبِ هُوَ الْكُفْرُ ، وَإِذَا كَانَ فِي الْأَعْمَالِ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ ، وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ وَالْأُصُولِ ، وَفِيهِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:( أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا:إذَا ائْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ) . رَوَتْهُ الصِّحَاحُ وَالْأَئِمَّةُ ، وَتَبَايَنَ النَّاسُ فِيهِ حَزْقًا ، وَتَفَرَّقُوا فِرَقًا ، بِسَبَبِ أَنَّ الْمَعَاصِيَ بِالْجَوَارِحِ لَا تَكُونُ كُفْرًا عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ ، وَلَا فِي دَلِيلِ التَّحْقِيقِ .
وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ صَحَّ نِفَاقُهُ وَخَلَصَ ، وَإِذَا كَانَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ كَانَتْ فِيهِ مِنَ النِّفَاقِ خَصْلَةٌ ، وَخَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ نِفَاقٌ ، وَعُقْدَةٌ مِنَ الْكُفْرِ كُفْرٌ ، وَعَلَيْهِ يَشْهَدُ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَالَ فِيهِ من نَكْثِهِ لِعَهْدِهِ ، وَغَدْرِهِ الْمُوجِبِ لَهُ حُكْمَ النِّفَاقِ ؛ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ:إنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ يَعْلَمُ كَذِبَهُ ، وَيَعْهَدُ بِعَهْدٍ لَا يَعْتَقِدُ الْوَفَاءَ بِهِ ، وَيَنْتَظِرُ الْأَمَانَةَ لِلْخِيَانَةِ فِيهَا . وَتَعَلَّقُوا فِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ من ذَلِكَ بِحَدِيثٍ خَرَّجَهُ الْبَزَّارُ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ:( دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ:من خِلَالِ الْمُنَافِقِينَ ثَلَاثٌ:إذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ . فَخَرَجَا من عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -ثَقِيلَيْنِ ، فَلَقِيَهُمَا عَلِيٌّ فَقَالَ لَهُمَا:مَالِي أَرَاكُمَا ثَقِيلَيْنِ ؟ قَالَا:حَدِيثًا سَمِعْنَاهُ من رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:من خِلَالِ الْمُنَافِقِينَ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ . فَقَالَ عَلِيٌّ:أَفَلَا سَأَلْتُمَاهُ ؟ فَقَالَا:هِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . قَالَ:لَكِنِّي سَأَسْأَلُهُ .
فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ:لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَهُمَا ثَقِيلَانِ ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا قَالَا:فَقَالَ:قَدْ حَدَّثْتَهُمَا ، وَلَمْ أَضَعْهُ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَضَعُونَهُ ، وَلَكِنَّ الْمُنَافِقَ إذَا حَدَّثَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنَّهُ يَكْذِبُ ، وَإِذَا وَعَدَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنَّهُ يَخْلُفُ ، وَإِذَا ائْتُمِنَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنَّهُ يَخُونُ ) .
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ:هَذَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ لِوَجْهَيْنِ:أَحَدُهُمَا ضَعْفُ سَنَدِهِ . وَالثَّانِي أَنَّ الدَّلِيلَ الْوَاضِحَ قَدْ قَامَ عَلَى أَنَّ مُتَعَمِّدَ هَذِهِ الْخِصَالِ لَا يَكُونُ كَافِرًا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَافِرًا بِاعْتِقَادٍ يَعُودُ إلَى الْجَهْلِ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ أَوْ التَّكْذِيبِ لَهُ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ:إنَّمَا ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْمُنَافِقِينَ زَمَانَ رَسُولِ اللَّهِ .
أَفَادَنِي أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى:{ أَنَّ مُقَاتِلَ بْنَ حَيَّانَ ، قَالَ خَرَجْت زَمَانَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ ، فَلَمَّا كُنْت بِالرَّيِّ أُخْبِرْت أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ بِهَا مُخْتَف مِنَ الْحَجَّاجِ ، فَدَخَلْت عَلَيْهِ ، فَإِذَا هُوَ فِي نَاسٍ من أَهْلِ وُدِّهِ . قَالَ:فَجَلَسْت حَتَّى تَفَرَّقُوا . ثُمَّ قُلْت:إنَّ لِي –وَاَللَّهِ- مَسْأَلَةً قَدْ أَفْسَدَتْ عَلَيَّ عَيْشِي . فَفَزِعَ سَعِيدٌ ، ثُمَّ قَالَ:هَاتِ . فَقُلْت:بَلَغَنَا أَنَّ الْحَسَنَ وَمَكْحُولًا وَهُمَا مَنْ قَدْ عَلِمْت فِي فَضْلِهِمَا وَفِقْهِهِمَا فِيمَا يَرْوِيَانِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَنَّهُ قَالَ:ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ ، وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ:إذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ . وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ ثُلُثُ النِّفَاقِ . وَظَنَنْت أَنِّي لَا أَسْلَمُ مِنْهُنَّ أَوْ من بَعْضِهِنَّ ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ .
قَالَ:فَضَحِكَ سَعِيدٌ ، وَقَالَ:هَمَّنِي وَاَللَّهِ مِنَ الْحَدِيثِ [ مِثْلُ] الَّذِي أَهَمَّكَ .
فَأَتَيْت ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ فَقَصَصْت عَلَيْهِمَا مَا قَصَصْتَ عَلَيَّ ، [ فَضَحِكَا] وَقَالَا:هَمَّنَا وَاَللَّهِ مِنَ الْحَدِيثِ مِثْلُ الَّذِي أَهَمَّكَ . فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُنَاسٍ من أَصْحَابِهِ ، فَقُلْنَا:يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّك قَدْ قُلْت:ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ:مَنْ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ فَفِيهِ ثُلُثُ النِّفَاقِ ، فَظَنَنَّا أَنَّا لَمْ نَسْلَمْ مِنْهُنَّ أَوْ من بَعْضِهِنَّ وَلَنْ يَسْلَمَ مِنْهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ .
قَالَ:فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ:مَا لَكُمْ وَلَهُنَّ ؟ إنَّمَا خَصَصْت بِهِ الْمُنَافِقِينَ ، كَمَا خَصَّهُمْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ .
أَمَّا قَوْلِي:إذَا حَدَّثَ كَذَبَ فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:{ إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ . . .} الآية لَا يَرَوْنَ نُبُوَّتَكَ فِي قُلُوبِهِمْ ، أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ ؟ قَالَ:فَقُلْنَا:لَا . قَالَ:فَلَا عَلَيْكُمْ ، أَنْتُمْ من ذَلِكَ بُرَآءُ .
وَأَمَّا قَوْلِي:إذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، فَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ:{ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا من فَضْلِهِ . . .} إلَى:{ يَكْذِبُونَ} . أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ ؟ قَالَ:فَقُلْنَا:لَا ، وَاَللَّهِ لَوْ عَاهَدْنَا اللَّهَ عَلَى شَيْءٍ لَوَفَّيْنَا بِعَهْدِهِ . قَالَ:فَلَا عَلَيْكُمْ ، أَنْتُمْ من ذَلِكَ بُرَآءُ .
وَأَمَّا قَوْلِي:إذَا ائْتُمِنَ خَانَ ، فَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ:{ إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ . . .} إلَى:{ جَهُولًا} . فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُؤْتَمَنٌ عَلَى دِينِهِ ، وَالْمُؤْمِنُ يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ، وَيَصُومُ وَيُصَلِّي فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ، وَالْمُنَافِقُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا فِي الْعَلَانِيَةِ ، أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ ؟ قُلْنَا:لَا . قَالَ:فَلَا عَلَيْكُمْ ، أَنْتُمْ من ذَلِكَ بُرَآءُ .
قَالَ:ثُمَّ خَرَجْت من عِنْدِهِ فَقَضَيْت مَنَاسِكِي ، ثُمَّ مَرَرْت بِالْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، فَقُلْت لَهُ:حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْك . قَالَ:وَمَا هُوَ ؟ قُلْت:مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ . قَالَ:فَحَدَّثَنِي بِالْحَدِيثِ . قَالَ:فَقُلْت:أَعندَك فِيهِ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا ؟ قَالَ:لَا . قُلْت:أَلَا أُحَدِّثُك حَدِيثًا حَدَّثَنِي بِهِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، فَحَدَّثْته بِهِ ، فَتَعَجَّبَ مِنْهُ ، وَقَالَ:إنْ لَقِينَا سَعِيدًا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ ، وَإِلَّا قَبِلْنَاك . قَالَ الْقَاضِي:هَذَا حَدِيثٌ مَجْهُولُ الْإِسْنَادِ ، وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَفِيهِ نَحْوٌ مِنَ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ تَخْصِيصُهُ من عُمُومِهِ ، وَتَحْقِيقُهُ بِصِفَتِهِ ، أَمَّا قَوْلُهُ:{ إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ} الْآيَةَ ، فَإِنَّهُ كَذِبٌ فِي الِاعْتِقَادِ ، وَهُوَ كُفْرٌ مَحْضٌ . وَأَمَّا قَوْلُهُ:{ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا من فَضْلِهِ} فَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي نَتَكَلَّمُ فِيهَا الْآنَ ، وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يَصْحَبَهَا الِاعْتِقَادُ ، بِخِلَافِ مَا عَاهَدَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعَهْدِ . وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِنِيَّةِ الْوَفَاءِ حِينَ الْعَهْدِ ، وَطَرَأَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بَعْدَ تَحْصِيلِ الْمَالِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ:{ إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} . وَقَوْلُهُ فِيهِ:إنَّ الْمُؤْمِنَ يُصَلِّي فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ، وَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ كَذَلِكَ ، فَقَدْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالْغُسْلَ تَكَاسُلًا إذَا أَسَرَّ ، وَيَفْعَلُهَا رِيَاءً إذَا جَهَرَ وَلَا يُكَذِّبُ بِهِمَا ، وَكَذَلِكَ فِي الصَّوْمِ مِثْلُهُ ، وَلَا يَكُونُ مُنَافِقًا بِذَلِكَ ، لِمَا بَيَّنَّاهُ من أَنَّ الْمُنَافِقَ مَنْ أَسَرَّ الْكُفْرَ ، وَالْعَاصِي مَنْ آثَرَ الرَّاحَةَ ، وَتَثَاقَلَ فِي الْعِبَادَةِ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ:هَذَا فِيمَنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْخِصَالَ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ لَوْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْمَعَاصِي مَا كَانَ بِهَا كَافِرًا مَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الِاعْتِقَادِ . وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَى عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النِّفَاقَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدًا لَا يُعْلَمُ مِنْهُ هَذَا ، كَمَا كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْلَمُهُ مِنْهُ النَّبِيُّ ، وَإِنَّمَا هُوَ الْقَتْلُ دُونَ تَأْخِيرٍ ، فَإِنْ ظَهَرَ ذَلِكَ من أَحَدٍ فِي زَمَانِنَا فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ:{ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ من مَوَالِيهِ فَقَدْ كَفَرَ} .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ:إنَّ أُخُوَّةَ يُوسُفَ عَاهَدُوا أَبَاهُمْ فَأَخْلَفُوهُ ، وَحَدَّثُوهُ فَكَذَّبُوهُ ، وَائْتَمَنَهُمْ عَلَيْهِ فَخَانُوهُ ، وَمَا كَانُوا مُنَافِقِينَ .
وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ .
تَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيَّ عَالِمٌ من عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ قَالَ:النِّفَاقُ نِفَاقَانِ:نِفَاقُ الْكَذِبِ ، وَنِفَاقُ الْعَمَلِ ، فَأَمَّا نِفَاقُ الْكَذِبِ فَكَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا نِفَاقُ الْعَمَلِ فَلَا يَنْقَطِعُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ:قَوْله تَعَالَى{ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ}:
فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا:أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى .
وَالثَّانِي:أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى النِّفَاقِ . عَبَّرَ عَنْهُ بِجَزَائِهِ ، كَأَنَّهُ قَالَ:فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَ جَزَاءَهُ .
وَعَلَى ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ أُنَبِّئُكُمْ أَنِّي كُنْت بِمَجْلِسِ الْوَزِيرِ الْعَادِلِ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ حُمَيْرٍ عَلَى رُتْبَةِ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ"تَرْتِيبِ الرِّحْلَةِ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْمِلَّةِ "، فَقَرَأَ الْقَارِئُ:{ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} وَكُنْت فِي الصَّفِّ الثَّانِي مِنَ الْحَلْقَةِ ، فَظَهَرَ أَبُو الْوَفَاءِ عَلِيُّ بْنُ عَقِيلٍ إمَامُ الْحَنْبَلِيَّةِ بِهَا ، وَكَانَ مُعْتَزِلِيَّ الْأُصُولِ ، فَلَمَّا سَمِعْت الْآيَةَ قُلْت لِصَاحِبٍ لِي كَانَ يَجْلِسُ عَلَى يَسَارِي:هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى رُؤْيَةِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ ، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَا تَقُولُ: "لَقِيت فُلَانًا "إلَّا إذَا رَأَتْهُ . فَصَرَفَ وَجْهَهُ أَبُو الْوَفَاءِ الْمَذْكُورُ إلَيْنَا مُسْرِعًا ، وَقَالَ:تَنْتَصِرُ لِمَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ فِي أَنَّ [ اللَّهَ] لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ ، فَقَدْ قَالَ:{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} . وَعِنْدَك أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَرَوْنَ اللَّهَ فِي الْآخِرَةِ ، وَقَدْ شَرَحْنَا وَجْهَ الْآيَتَيْنِ فِي الْمُشْكِلَيْنِ ، وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ:فَأَعْقَبَهُمْ هُوَ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ، فَيَحْتَمِلُ عَوْدُ ضَمِيرِ"يَلْقَوْنَهُ "إلَى ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي أَعْقَبَهُمْ الْمُقَدَّرُ بِقَوْلِنَا هُوَ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ إلَى النِّفَاقِ مَجَازًا عَلَى تَقْدِيرِ الْجَزَاءِ كَمَا بَيَّنَّاهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ:قَوْله تَعَالَى{ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}:يُرِيدُ بِهِ تَحْرِيمَ مُخَالَفَةِ الْعَهْدِ وَنَكْثِ الْعَهْدِ كَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ حَالُهُ .
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ نَافِعٍ ، قَالَ:لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ ، فَقَالَ:إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يَقُولُ:( يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ، وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعَةِ اللَّهِ وَبَيْعَةِ رَسُولِهِ ؛ وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ من أَنْ يُبَايِعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعَةِ اللَّهِ وَبَيْعَةِ رَسُولِهِ ، ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ ، وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ ، وَلَا بَايَعَ فِي هَذَا الْأَمْرِ إلَّا كَانَتْ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ .
وَقَالَ ابْنُ خَيَّاطٍ:إنَّ بَيْعَةَ عَبْدِ اللَّهِ لِيَزِيدَ كَانَتْ كُرْهًا ، وَأَيْنَ يَزِيدُ من ابْنِ عُمَرَ ، وَلَكِنْ رَأَى بِدِينِهِ وَعِلْمِهِ التَّسْلِيمَ لِأَمْرِ اللَّهِ ، وَالْفِرَارَ عَنْ التَّعَرُّضِ لِفِتْنَةٍ فِيهَا من ذَهَابِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ مَا لَا يَفِي بِخَلْعِ يَزِيدَ . وَلَوْ تَحَقَّقَ أَنَّ الْأَمْرَ يَعُودُ بَعْدَهُ فِي نِصَابِهِ ، فَكَيْفَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ ؟ وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فَتَفَهَّمُوهُ وَالْتَزِمُوهُ تَرْشُدُوا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ:قَوْله تَعَالَى{ لَئِنْ آتَانَا من فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ}:
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَنْ قَالَ:إنْ مَلَكْت كَذَا فَهُوَ صَدَقَةٌ ، أَوْ عَلَيَّ صَدَقَةٌ ، إنَّهُ يَلْزَمُهُ ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ، وَالْخِلَافُ فِي الطَّلَاقِ مِثْلُهُ ، وَكَذَلِكَ فِي الْعِتْقِ ، إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ:إنَّهُ يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْعِتْقِ ، وَلَا يَلْزَمُ فِي الطَّلَاقِ . وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:( لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ ، وَلَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ ) . وَسَرَدَ أَصْحَابُهُ فِي هَذَا الْبَابِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً لَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْهَا ، فَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَالْمَعَانِي مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَنَا . وَقَدْ حَقَّقْنَا الْمَسْأَلَةَ بِطُرُقِهَا فِي كِتَابِ التَّخْلِيصِ .
وَأَمَّا أَحْمَدُ فَزَعَمَ أَنَّ الْعِتْقَ قُرْبَةٌ ، وَهِيَ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِالنَّذْرِ ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَحَلِّهِ ، وَهُوَ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا:إنْ كَانَ الطَّلَاقُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّ الْقَوْلَ يَنْعَقِدُ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ إذَا صَادَفَ مَحَلًّا ، وَرَبَطَهُ بِمِلْكٍ ، كَمَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ:إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَإِنَّ الْقَوْلَ يَنْعَقِدُ وَيَصِحُّ وَيَلْزَمُ ، وَإِذَا دَخَلَتْ الدَّارَ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِالْقَوْلِ السَّابِقِ لَهُ ، اللَّازِمُ الْمُنْعَقِدُ ، الْمُضَافُ إلَى مَحَلٍّ صَحِيحٍ تَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَيْهِ ، وَهِيَ الزَّوْجَةُ ؛ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهَا:إذَا تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَإِذَا مَلَكْت هَذَا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ التَّصَرُّفَ إلَى مَحَلِّهِ فِي وَقْتٍ يَصِحُّ وُقُوعُهُ فِيهِ ؛ فَيَلْزَمُهُ كَمَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ:إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ:إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ:قَوْله تَعَالَى{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ}:حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ ، وَصَرَّحَ بِنِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ صَدَقَاتُهُمْ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِيمَانِ شَرْطٌ لِقَبُولِ الصَّدَقَةِ وَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَقْبَلْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَلَا عُثْمَانُ ؛ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِلْمِهِ بِسَرِيرَتِهِ ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَى بُنَيَّاتِ صَدْرِهِ .