التّفسير
تبدأ السّورة بالحمد لله والثناء عليه ،ثمّ تشرع بتوعية الناس على مبدأ التوحيد ،عن طريق خلق العالم الكبير ( السموات والأرض ) أولا ،ثمّ عن طريق خلق العالم الصغير ( الإِنسان ) ثانياً: ( الحمد لله الذي خلق السموات والأرض )الله الذي هو مبدأ الظّلمة والنّور ،وبخلاف ما يعتقده الثنويون ،وهو وحده خالق كل شيء: ( وجعل الظّلمات والنّور ) .
غير أنّ الكافرين والمشركين ،بدلا من أن يتعلموا من هذا النظام الواحد درس التوحيد ،يصطنعون لله الشريك والشبيه: ( ثمّ الذين كفروا بربّهم يعدلون ){[1133]} .
نلاحظ أنّ القرآن يذكر عقيدة المشركين بعد حرف العطف «ثم » الذي يدل في اللغة العربية على الترتيب والتراخي ،وهذا يدل على أن التوحيد كان في أوّل الأمر مبدأ فطرياً وعقيدة عامّة للبشر ،بعد ذلك حصل الشرك كانحراف عن الأصل الفطري .
أمّا لماذا استعملت الآية كلمة «الخلق » بشأن السموات والأرض ،وكلمة «جعل » بشأن النّور والظلمة ،فإنّ للمفسّرين في ذلك كلاماً كثيراً ،ولكن أقربه إلى الذهن هو القول بأنّ «الخلق » يكون في أصل وجود الشيء ،و«الجعل » يكون بشأن الخصائص والآثار والكيفيات التي هي نتيجة لخلق تلك المخلوقات ،ولما كان النّور والظلمة حالتين تابعتين فقد عبّر عنهما بلفظة «جعل » .
وروي عن أمير المؤمنين علي( عليه السلام ) في تفسير هذه الآية قوله: «وكان في هذه الآية ردّ على ثلاثة أصناف منهم ،لما قال:( الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ) فكان ردّاً على الدهرية الذين قالوا: إِنّ الأشياء لا بدء لها وهي دائمة ،ثمّ قال: ( وجعل الظّلمات والنّور ) فكان ردّاً على الثنوية الذين قالوا: إِنّ النّور والظلمة هما المدبران .
ثمّ قال: ( ثمّ الذين كفروا بربّهم يعدلهم ) فكان ردّاً على مشركي العرب الذين قالوا: إِنّ أوثاننا آلهة »{[1134]} .
هل الظّلمة من المخلوقات ؟
تفيد الآية إِنّه مثلما أن «النّور » من مخلوقات الله ،فإِنّ «الظلمة » كذلك من مخلوقاته ،مع أنّ الفلاسفة والمختصين بالعلوم الطبيعية يعرفون أنّ الظلمة هي انعدام النّور ،ولهذا فلا يمكن اطلاق صفة «المخلوق » على المعدوم إِذن ،كيف تعتبر الآية المذكورة الظلمة من المخلوقات ؟
في ردّ هذا الاعتراض نقول .
أوّلا: الظّلمة ليس تعني دائماً الظلام المطلق ،بل كثيراً ما تطلق على النّور الضعيف جداً بالمقارنة مع النّور القوي ،فنحن جميعاً نقول ،مثلا ،ليل مظلم ،مع العلم بأنّ ظلام الليل ليس ظلاماً مطلقاً ،بل هو مزيج من نور النجوم الضعيف أو مصادراَ أُخرى للنور ،وعلى هذا يكون مفهوم الآية هو أنّ الله جعل لكم نور النهار وظلام الليل ،فالأوّل نور قوي والآخر نور ضعيف جداً وواضح أنّ الظلمة ،بهذا المعنى ،تكون من المخلوقات .
وثانياً: صحيح أنّ الظلمة المطلقة أمر عدمي ،ولكن الأمر العدميفي ظروف خاصّةيكون نابعاً من أمر وجودي ،أي أنّ يوجد الظلمة المطلقة في ظروف خاصة لهدف معين ،لابدّ أن يكون قد استعمل لذلك وسائل وجودية ،فإِذا أردنا أنّ نجعل الغرفة مظلمة لتحميض صورةمثلافعلينا أن نمنع النّور لكي تحصل الظلمة في تلك اللحظة المعينة ،وظلمة هذا شأنها ظلمة مخلوقة ( مخلوقة بالتبع ) .
وإِذا لم يكن ( العدم المطلق ) مخلوقاً ،فإن ( العدم الخاص ) له نصيب من الوجود ،وهو مخلوق .
النّور رمز الوحدة ،والظلمة رمز التشتت:
الأمر الآخر الذي ينبغي الالتفات إليه هنا هو أنّ لفظة ( نور ) ترد في القرآن بصيغة المفرد ،بينما الظلمة تأتي بصيغة الجمع ( ظلمات ) .
وقد يكون هذا إِشارة لطيفة إِلى حقيقة كون الظلام ( المادي والمعنوي ) مصدراً دائماً للتشتت والانفصال والتباعد ،بينما النّور رمز التوحد والتجمع .
طالما شاهدنا أنّنا في الليلة الصيفية الظلماء نوقد سراجاً في فناء الدار ،ثمّ لا تمضي إِلاّ دقائق حتى نرى مختلف أنواع الحشرات تتجمع حول السراج مؤلفة تجمعاً حياً حول النّور ،ولكننا إِذا أطفأنا السراج تفرقت الحشرات كل إِلى جهة ،كذلك الحال في الشؤون المعنوية والاجتماعية .فنور العلم والقرآن والإِيمان أساس الوحدة ،وظلام الجهل والكفر والنفاق أساس التفرق والتشتت .
قلنا: إِنّ هذه السورة تسعى إِلى لفت نظر الإِنسان إِلى العالم الكبير لتثبيت قواعد عبادة الله والتوحيد في القلوب ،توجه نظره أوّلا إِلى العالم الكبير ،