التّفسير
الإنسان مخلوق من النطفة التافهة:
تتحدث الآيات الأُولى عن خلق الإنسان ،بالرغم من أنَّ أكثر بحوث هذه السورة هي حول القيامة ونِعَمِ الجنان ،فتحدثت في البدء عن خلق الإنسان ،لأنَّ التوجه والالتفات إلى هذا الخلق يهيئ الأرضية للتوجه إلى القيامة والبعث كما شرحنا ذلك سابقاً في تفسير سورة القيامة .
فيقول تعالى: ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً ){[5633]} .
نعم ،كانت ذرات وجود هذا الإنسان متناثرة في كلّ صوب وبين الأتربة ،بين أمواج قطرات ماء البحر .في الهواء المتناثر في جو الأرض ،وهكذا اختفت المواد الأصلية لوجوده في كلّ زاوية من زوايا هذه المحيطات الثلاثة ،وقد ضاع بينها ولا يمكن ذكره مطلقاً .
ولكن هل أنَّ المراد من الإنسان هنا هو نوع الإنسان ،ويشمل بذلك عموم البشر ،أم أنَّ هذا الإنسان يختص بالنبي آدم( عليه السلام ) ؟
وهناك أقوال في تفسير ( لم يكن شيئاً مذكوراً ) منها: إنَّ الإنسان لم يكن شيئاً مذكوراً عندما كان في عالم النطفة والجنين ،وإنّما أصبح ممّن يذكر عندما طوى مراحل التكامل فيما بعد ؛ففي حديث ورد عن الإمام الباقر( عليه السلام ) «كان الإنسان مذكوراً في علم الله ولم يكن مذكوراً في عالم الخلق »{[5634]} .
وجاء في بعض التفاسير أنَّ المراد بالإنسان هنا هم العلماء والمفكرون الذين لم يكونوا مذكورين قبل انتشار العلم ،وعند وصولهم إلى العلم وانتشاره بين الناس أصبح ذكرهم مشهوراً في حياتهم وبعد موتهم .
وقيل «إنَّ عمر بن الخطاب » قد سمع أحداً يتلو هذه السورة فقال: «ليت آدم بقي على ما كان فكان لا يلد ولا يبتلي أولاده »{[5635]} وهذا من عجائب القول ،لاعتراضه على مسألة الخلق .
ثمّ يأتي خلق الإنسان بعد هذه المرحلة ،واعتبار ذكره ،فيقول تعالى ( إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً ) .
«أمشاج »: جمع مَشَجْ ،على وزن ( نسج ) أو ( سبب ) ،أو أنه جمع «مَشِيجْ » على وزن ( مريض ) بمعنى المختلط .
ولعل ذكر خلق الإنسان من النطفة المختلطة إشارة إلى اختلاط ماء الذكور والإناث ،وقد أُشير إلى ذلك في روايات المعصومين( عليهم السلام ) بصورة إجمالية ،أو أنّها إشارة إلى القابليات المختلفة الموجودة داخل النطفة من ناحية العوامل الوراثية عن طريق الجيّنات ،أو أنَّها إشارة إلى اختلاط المواد التركيبية المختلفة للنطفة ،لأنَّها تتركب من عشرات المواد المختلفة ،أو اختلاط جميع ذلك مع بعضها البعض ،والمعنى الأخير أجمع وأوجه .
ويحتمل كون «الأمشاج » إشارة إلى تطورات النطفة في المرحلة الجنينية{[5636]} .
«نبتليه »: إشارة إلى وصول الإنسان إلى مقام التكليف والتعهد وتحمل المسؤولية والاختبار والامتحان ،وهذه هي إحدى المواهب الإلهية العظيمة الذي أكرم بها الإنسان وجعله أهلاً للتكليف وتحمل المسؤولية ،وبما أنَّ الاختبار والتكليف لا يتمّ إلاَّ بعد الحصول على المعرفة والعلم فقد أشار في آخر الآية إلى وسائل المعرفة ،والعين والأُذن التي أودعها سبحانه وتعالى في الإنسان وسخرها له .
وقيل المراد بالابتلاء هنا التطورات والتحولات الحاصلة في الجنين من النطفة حتى ينشئه إنساناً كاملاً ،ولكن التمعن في عبارة «نبتليه » ،وكذلك في كلمة «الإنسان » نجد أنَّ المعنى الأوّل هو الأوجه .
وممّا يستفاد من هذه العبارة أنَّ منبع جميع إدراكات وعلوم الإنسان هي إدراكاته الحسية ،وبعبارة أخرى إنَّ الإدراكات الحسية هي أُمُّ المعقولات ،وهذه هي نظرية كثير من فلاسفة المسلمين ومن بين فلاسفة اليونان يذهب أرسطو إلى هذه النظرية أيضاً .
/خ4