قوله:{وقطعنا اثنتي عشرة أسباطا أمما} قطعناهم بمعنى فرقناهم وميزنا بينهم .اثنتي عشرة ،مفعول ثان لقطعنا .وقد أنث اثنتي عشرة على تقدير أمة: وتقديره: اثنتا عشرة أمة .وأسباطا بدل من اثنتي عشرة .وأمما نعت لأسباطا أو بدل منه{[1542]} ،والأسباط جمع سبط بكسر السين وهو ولد الولد .والمراد بالأسباط القبائل{[1543]} .والمعنى: أن اله صير بني إسرائيل اثنتي عشرة أمة من اثني عشر ولدا ؛لرجع كل سبط إلى رئيسه فيخفف أمرهم على موسى ؛ولئلا يتحاسدوا ويختلفوا فيقع بينهم الاقتتال .
قوله:{وأوحينا إلى موسى إذ استقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا} لما أصاب بني إسرائيل العطاش في التيه سألوا موسى أن يستسقي لهم ربه ،فأوحي الله إليه أن يضرب الحجر فضربه{فانبجست منه اثنتا عشرة عينا} انبجست ،انفجرت ،وذلك من الانبجاس وهو الانفجار ،أو النبوع في عين الماء{[1544]} .
فإنه عقب ضرب الحجر بالعصا انفجرت منه اثنتا عشرة عينا .وذلك بعدد الأسباط وهم الاثنا عشر ؛ليكون سبط عين مختصة بهم بشربهم منها ،وكل سبط منهم هم بنو أب واحد .ولذلك قال:{قد علم كل أناس مشربهم} .
قوله:{وظللنا عليهم الغمم وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم} لما كان بنو إسرائيل في التيه وغشيهم من سموم الصحراء ولظى الشمس الحرور ما غشيهم ؛أظلهم الله بالغمام تضليلا .والغمام معناه السحاب{[1545]} ؛فقد استظلوا بالسحاب الرخي الرطيب ،يسكن بسكونهم ،ويسر بسيرهم وكذلك أنزل عليهم المن ؛وهو كل طل{[1546]} ينزل من السماء على شجر أو حجر ويحلو وينعقد عسلا ويجف جفاف الصمغ{[1547]} .
كذلك انزل عليهم ( السلوى ) وهو طائر ،واحدته سلوة .وقيل: هو السماني{[1548]} .وقد سبق بيان ذلك في تفسير سورة البقرة .وذلك كله من فضل الله على بني إسرائيل ؛إذ تفضل عليهم بعطايا وخيرات ما سبقهم بها أمة من الأمم .فكانوا بذلك قد تميزوا بجزيل النعم من الله كنعمة الغمام والمن والسلوى وانبجاس الماء من الصخر .وغير ذلك من المنن الأخريات الكثيرة التي فضل الله بها بني إسرائيل على العالمين .إما في زمانهم دون غيره من الأزمنة ،أو في الزمان كله .وذلك لتكون له الحجة عليهم إذا لم يؤمنوا ويهتدوا ،فيعصوا وعتوا وأضلوا وأفسدوا في الأرض ؛فإنه إذا من الله على أناسي من عباده بجزيل من فضله ونعمه ،فما شكروا ولا أذعنوا لله بالطاعة والامتثال بل طغوا وبغوا وتجبروا في الأرض وأفسدوا في البلاد وبين العباد ،لا جرم أن ينالهم عذاب الله في الدنيا بالخزي والإذلال وغير ذلك من أنواع البلاء ،وفي الآخرة لهم سواء الدار وبئس القرار .
قوله:{كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} بعد أن رزق الله بن إسرائيل بالمن والسلوى وهما من خير الطعام المستلذ المفيد ،مضافا إليه الماء البارد الفارت في جوف الصحراء الحارقة الحرور ،وقد أظلهم السحاب الرخي العليل –بعد ذلك قال الله لهم: كلوا من هذه الأطايب المستلذة ؛لكنهم لم يقدروا الله حق قدره ؛إذ لم يشكروه على هذه النعم ؛بل خالفوا عن أمره سبحانه وجحدوا نعمه الجليلة: فهم بعصيانهم وكفرانهم لم يظلموا الله شيئا ،فإن الله لا ينال منه ظلم الظالمين ،ولكن الظالمين إنما يظلمون أنفسهم بإيقاعها في الهلكة والتخسير{[1549]} .