{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} ( البقرة:124 )
التفسير:
{قوله تعالى: وإذ ابتلى إبراهيم ربه}؛{إبراهيم} مفعول مقدم ؛و{ربه} فاعل مؤخر ؛فالمبتلي هو الله ؛والمبتلى هو إبراهيم ؛والابتلاء هو الاختبار ،والامتحان ؛و{إبراهيم} بكسر الهاء ،وياء بعدها ؛وفيها قراءة:{إبراهام} بفتح الهاء ،وألف بعدها ؛وهنا أضاف الربوبية إلى إبراهيم: وهي من الربوبية الخاصة ؛فالربوبية بإزاء العبودية ؛فكما أن العبودية نوعانخاصة ،وعامةفالربوبية أيضاً نوعان: خاصة ،وعامة ؛وقد اجتمعا في قول السحرة:{آمنا برب العالمين} [ الأعراف: 121]: هذه عامة ؛{رب موسى وهارون} [ الشعراء: 48]: هذه خاصة ؛ولا شك أن ربوبية الله سبحانه وتعالى للرسلولا سيما أولو العزم منهم ؛وهم نوح ،وإبراهيم ،وموسى ،وعيسى ،ومحمد عليهم الصلاة والسلامأخص الربوبيات . قوله تعالى:{بكلمات}؛هذه الكلماتالتي هي محل الابتلاء ،والاختبارأطلقها الله سبحانه وتعالى ؛فهي كلمات كونية ؛وشرعية ؛أو جامعة بينهما ؛واختلف المفسرون في هذه الكلمات ؛وأصح الأقوال فيها أن كل ما أمره به شرعاً ،أو قضاه عليه قدراً ،فهو كلمات ؛فمن ذلك أنه ابتُلي بالأمر بذبح ابنه ،فامتثل ؛لكن الله سبحانه وتعالى رفع ذلك عنه حين استسلم لربه ؛وهذا من الكلمات الشرعية ؛وهذا امتحان من أعظم الامتحانات ؛ومن ذلك أن الله امتحنه بأن أوقدت له النار ،وأُلقي فيها ؛وهذا من الكلمات الكونية ؛وصبر ،واحتسب ؛فأنجاه الله منها ،وقال تعالى:{يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} [ الأنبياء: 69]؛وكل ما قدره الله عليه مما يحتاج إلى صبر ،ومصابرة ،أو أمره به فهو داخل في قوله تعالى:{بكلمات} .
قوله تعالى:{إني جاعلك} أي مصيرك ؛وهي تنصب مفعولين ؛لأنها مشتقة من «جعل » التي بمعنى «صيّر » ؛والمفعول الأول: الكاف التي في محل جر بالإضافة ؛والمفعول الثاني:{إماماً} .
وقوله تعالى:{للناس إماماً} عامة فيمن أتى بعده: فإنه صار إماماً حتى لخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم ،كما قال تعالى:{ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} [ النحل: 123]؛و«الإمام » مَن يُقتدى به سواء في الخير ،أو في الشر ؛لكن لا ريب أن المراد هنا إمامة الخير .
فإذا قال قائل: أرُونا دليلاً على أن الإمامة في الشر تسمى إمامة ؟قلنا: قوله تعالى:{وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون} [ القصص: 41] ،وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء »{[155]}؛وهذا لأنه إمام .
قوله تعالى:{ومن ذريتي} أي واجعل من ذريتي إماماً ؛وهنا{مِن} يحتمل أنها لبيان الجنس ؛وبناءً على ذلك تصلح{ذريتي} لجميع الذرية ؛يعني: واجعل ذريتي كلهم أئمة ؛ويحتمل أنها للتبعيض ؛وعليه فيكون المقصود: اجعل بعض الذرية إماماً ؛والكلام يحتمل هذا ،وهذا ؛ولكن سواء قلنا ؛إنها لبيان الجنس ؛أو للتبعيض ؛فالله تعالى أعطاه ذلك مقيداً ،فقال تعالى:{لا ينال} أي لا يصيب{عهدي} أي تعهدي لك بهذا{الظالمين}؛و{عهدي} فاعل ؛و{الظالمين} مفعول به ؛أي أجعل من ذريتك إماماً ؛ولكن الظالم من ذريتك لا يدخل في ذلك .
الفوائد:
1 من فوائد الآية: أن الله قد يبتلي بعض العباد بتكليفات خاصة ؛لقوله تعالى:{وإذ ابتلى إبراهيم ربه ) وكما أنه يبتلي بعض العباد بتكليفات خاصة شرعية ،فإنه قد يبتليهم بأحكام كونية ،مثل: مرض ،مصائب في المال ،أو في الأهل ؛وما أشبه ذلك .
2 ومنها: فضيلة إبراهيم ( ص ) ؛لقوله تعالى:{ربه} حيث أضاف ربوبيته إلى إبراهيموهي ربوبية خاصة؛ولقوله تعالى:{فأتمهن}؛ولقوله تعالى:{إني جاعلك للناس إماماً} .
3 ومنها: أن من أتم ما كلفه الله به كان من الأئمة ؛لقوله تعالى:{إني جاعلك للناس إماماً}؛فإنه لما أتمَّهن جوزي على ذلك بأن جُعل للناس إماماً .
4 ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يدعو لذريته بالإمامة ،والصلاح ؛لقوله تعالى:{قال ومن ذريتي}؛وإبراهيم طلب أن يكون من ذريته أئمة ،وطلب أن يكون من ذريته من يقيم الصلاة:{رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي} [ إبراهيم: 40] .
5 ومنها: أن الظالم لا يستحق أن يكون إماماً ؛والمراد: الظلم الأكبرالذي هو الكفر؛لقوله تعالى:{لا ينال عهدي الظالمين} .
6 ومنها: أن الظلم ينزل بأهله إلى أسفل سافلين ؛لا يجعلهم في قمة ؛بل ينزلهم إما في الدنيا ؛وإما في الآخرة .