إبراهيم وبناء الكعبة
بعد أن قص الله تعالى ما أنعم به على بني إسرائيل وما كفروا به هذه النعمة في حاضرهم وماضيهم ، وكانوا يفخرون بأنهم أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وإنهم لهذا أبناء الله وأحباؤه ، وما أداهم ذلك الاعتقاد الواهم الباطل إلى ضلال توارثوه ، وفساد فكر تناقلوه ، وكفر بالله ، وقتل للنبيين ، أخذ سبحانه يقص قصص إبراهيم أبي إسماعيل وإسحاق وجد يعقوب وجد النبيين الذين ذكروا في التوراة والإنجيل والقرآن .
يقول سبحانه:{ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} و"إذ"ظرف زمان يدل على الماضي متعلق بمحذوف تقديره:اذكر الوقت الذي ابتلى الله فيه إبراهيم بكلمات فأتمهن ، وذكر الوقت ليس ذكرا للزمن المجرد ، إنما هو ذكر للوقائع في هذا الزمن ، للعبرة بها ، والاتعاظ في مثلها .
وقد ابتدأ هذه الوقائع بابتلاء إبراهيم عليه السلام بكلمات . والابتلاء معناه الاختبار من الله تعالى لا عن جهل بما سيكون ، بل لإظهار ما علمه الله تعالى عما يكون ، ولا يكون إلا في أمر يعمله العبد بمجاهدة ، وصبر وجهاد نفس ، وقد كان الابتداء بذكر الابتلاء لبيان أن إمامة النبوة لا تكون إلا بمجاهدة ، وجهاد النفس ، وقدم المفعول على الفاعل وهو "الكلمات"التي ابتلي بها ؛ لأن موضوع الحديث هو إبراهيم ذاته وليس الكلمات ، فكان هو موضع الاهتمام وحده ، وكان المراد كشف حال نفسه القوية الطاهرة ، كما قال تعالى:{ ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين . . . ( 31 )} [ محمد] .
والكلمات التي اختبر الله تعالى بها إبراهيم ، ليست هي ألفاظها وكلماتها وحروفها ، وإنما المراد بالكلمات المدلولات والمطلوبات التي تتضمنها من أوامر ونواه ووقائع .
وقد اتجه بعض مفسري السلف إلى إحصاء ما تدل عليه هذه الكلمات اعتمدوا في ذلك على أقوال الصحابة والتابعين ، ولكن لم يسند فيها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم شيء ؛ ولذا قال شيخ المفسرين السلفيين ابن جرير:لا يجوز الجزم بشيء مما ذكروه منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع . . ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ، ولا بنقل الجماعة يجب التسليم له . اه .
وإذا كان لم يصح خبر بهذه الكلمات أو بالوقائع التي تدل عليها الألفاظ ، فإننا نتلمسها من القرآن الكريم سجل النبوات وأخبارها .
فأول واقعة تجلى فيها اختبار الله تعالى لإبراهيم هو في طلب معرفة ربه رب الوجود ، ورب المشارق والمغارب ، فقد اختبره الله تعالى بذلك – كما حكى القرآن الكريم – فقد كفر بالأوثان ، ابتداء ؛ لأنها لا تنفع ولا تضر ، ثم أخذ يتعرف رب الوجود من الوجود والملك واقرأ قوله تعالى:{ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ( 74 ) وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ( 75 ) فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين ( 76 ) فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ( 77 ) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قومي إني بريء مما تشركون ( 78 ) إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ( 79 ) وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون ( 80 )} [ الأنعام] .
هذا اختبار من الله تعالى عرف به عقل إبراهيم السليم ، وإدراكه المستقيم .
وقد اختبره الله تعالى وألهمه أن يحطم الأوثان فحطمها ، وجعلها جذاذا ، وألقوه في النار عقابا فقال الله تعالى:{ يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ( 69 )} [ الأنبياء] . واختبره الله تعالى بكلمة مدلولها أشد ما يكون على النفس البشرية أن يذبح ولده البكر عليه السلام ، فاستجاب لأمر ربه وأخذ يذبح ولده الحبيب استجابة للحبيب ، ولكن فداه الله تعالى بذبح عظيم .
واختبره الله تعالى بالهجرة من بلده إلى الشام ، وإلى مكة حيث ولده العزيز إسماعيل وأمه واختبره الله تعالى بالحنيفية السمحة فحملها وكانت ملته المتبعة ، وما كان من المشركين .
اختبره الله تعالى بكلماته ، أي بمدلولها ، وما ذكرنا بعضها ، فأتمهن أي أتم ما طلب منه فيها ، وكان أمرها عظيما وكان إبراهيم في إتمامها عظيما .
ولذا كانت مكافأة الله تعالى أعظم ، فكانت جزاء وفاقا لما أتم به الكلمات ، قال الله تبارك وتعالى لخليله إبراهيم:{ إني جاعلك للناس إماما} أي يقتدى به ويتبع ، فالإمام ما يؤتم به ويتبع و "جاعلك"أي مصيرك بإتمام الكلمات ، ووفائك لهذا قدوة طيبة ، وأسوة صالحة ، فمن اتبعك فقد اهتدى ، وأي امرئ عنده طاقة إبراهيم أبي الأنبياء في القدرة على الاقتداء به ، والاهتداء بهديه والوفاء بكلماته . إن ذلك لمقام عظيم .
وإبراهيم كان شفيقا رفيقا محبا لأسرته في غير ظلم ولا اعتداء ، وكان يعطف على الأطفال ويرفق بهم ؛ ولذلك لم يكتف بأن كان هو الإمام ، بل أراد أن يكون إمام من ذريته يعمل بمثل عمله ويقتدى به في الهداية ، فهو يطلب الهداية لذريته لا استئثارا بالمحبة ولكن بالتقوى والهداية ؛ ولذلك قال مناجيا ربه:{ ومن ذريتي} أي اجعل يا رب العالمين من ذريتي أئمة صالحين يؤتمون ويقتدى بهم ، فهو يدعو الله تعالى إلى أن تكون ذريته طيبة صالحة يقتدى بهم ، فتكون خلفا له في الإمامة لا بمجرد الانتساب إليه بل لعملهم وتقواهم وإيمانهم بكلمات الله .
ولكن الله تعالى العليم الذي يعلم كل شيء يعلم ما هو كائن ، وما يكون أشار إلى أنه لن تكون ذرية إبراهيم كلها من الصالحين الذين يؤتم بهم ، بل سيكون منهم الظالمون الذين يظلمون أنفسهم ، وغيرهم بالمعاصي يرتكبونها وبالشر يعملونه ويطلبونه ؛ ولذا قال تعالى:{ قال لا ينال عهدي الظالمين} .
أي أن ذريته سيكون منهم محسن ، وسيكون منهم ظالم لنفسه ، بالمعاصي ، فالمحسنون ينالهم عهدي ، ويكون منهم أئمة يقتدى بهم ، وأما الظالمون فلن ينالوا إمامة في الدين من الله سبحانه وتعالى ، وقد قال تعالى:{ وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ( 113 )} [ الصافات] والمعنى أن ذرية إبراهيم من أحسن منها نال الإمامة ، ومن لم يحسن فهو ظالم لا ينالها ؛ لأنه يضل الناس ، ولا يهدي أحدا ؛ ولذلك كان من ذريته أئمة في الدين ، وقد قال تعالى:{ ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ( 27 )} [ العنكبوت] .
والعهد في اللغة مراعاة الشيء والمحافظة عليه ، ومن ذلك قوله تعالى:{ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ( 115 )} [ طه] والعهد أيضا الأمر الموثق الذي لا يجوز نقضه ، ومن ذلك قوله تعالى:{ وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ( 34 )} [ الإسراء] وقوله تعالى:{ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا . . . ( 91 )} [ النحل] .
والعهد في هذه الآية هو الإمامة ، وكأنها مأخوذة من العهد بمعنى الرعاية فعهد الله تعالى أن يعهد برعاية الدين والإمامة إلى إمام في الدين ، وإنه لا ينال هذه الإمامة ظالم ، ولا يشمل عهد الله بمعنى أن يعهد بالرعاية للظالمين ، أي لا يشمل عهدي ظالما قط .
وقد تكلم بعض المفسرين على ضوء هذه الآية الكريمة على الولاية وإمامة الناس ، فقال بعضهم:إن هذه الآية تدل على أنه لا يجوز ولاية الظالم ، ولا يصح أن يكون إماما ، وأنه إذا ولي ظالم لا تجوز طاعته ، أو على الأقل في ظلمه ، وقال آخرون:تجب طاعته في الطاعة وتجب مخالفته في المعصية ؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ويستمر في ولايته ، ويسعى في تغييره .
وإن الاتفاق على أنه لا يجوز تولية الجائر ، ولكن أتسقط ولايته بجوره ؟ ، أم تبقى ويسعى في تغييره ؟ المعتزلة والشيعة والخوارج قالوا:لا طاعة له ، ويغير بالقوة .
والذي عليه الأكثرون كما قال القرطبي:أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه ؛ لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الخوف بالأمن ، وإراقة الدماء ، وانطلاق أيدي السفهاء وشن الغارات على المسلمين والفساد في الأرض .
وقد كان الإمام مالك يمنع محاربة الخوارج وأمثالهم إذا خرجوا على الظالمين ويقول:دعهم ينتقم الله من ظالم بظالم ثم ينتقم من كليهما ، ولكن إذا خرجوا على مثل عمر بن عبد العزيز وجب على الناس أن يقاتلوهم ويمنعوهم من طغيانهم .