أنعم الله تعالى على العرب بإبراهيم عليه السلام إذ جعل البيت الذي بناه وهو بيت الله الحرام مثابة للناس وأمنا ، كما قال تعالى في سورة أخرى:{ أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم . . . ( 67 )} [ العنكبوت] .
ولقد قال تعالى في ذلك:{ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا} . والمعنى:واذكر الوقت الذي جعلنا فيه البيت مثابة للناس ، أي اذكر ذلك الوقت بما فيه من نعم ، وإكرام لأهل التقوى ، والبيت المراد منه المسجد الحرام ، وإطلاق كلمة "البيت"وإرادة البيت الحرام إشعار بفضله ، وإشارة إلى كماله ، وإلى أنه أكمل بيت وضع للناس ، لأنه أول بيت للعبادة ، ولأنه بناء إبراهيم أبي الأنبياء ، ولأنه موضع الأمن من الخوف ، ومثابة الناس ، ولأنه أنشئ مطهرا من الأصنام وما جاء بها العرب بعد ذلك إلا بعد أن انحرفوا عن ملة إبراهيم وإن كان – البيت – شرفهم ومحتدهم الكريم .
والمثابة:أي المرجع الذي يأوون إليه ، والمثابة مصدر ثاب يثوب مثابا وثووبا ، أي مأوى يأوون إليه عندما تشتد بأحدهم شديدة ويريد الالتجاء إليه سبحانه .
وقوله تعالى:{ وأمنا} فهو مصدر موصوف به البيت فهو أمن للناس يأمنون فيه من القتل أو الاعتداء ، حتى إن الرجل ليلقى فيه قاتل أبيه وأخيه فلا يمتد إليه ، وحرم فيه القتل والقتال ، وكان محترما في الجملة من العرب أيام شركهم ، وذلك من هداية الله تعالى لهم بالأخذ بأثارة من بقايا ملة إبراهيم .
ولقد قال الله تعالى في هذا البيت:{ وإن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ( 96 ) فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ( 97 )} [ آل عمران] .
وقوله تعالى:{ مثابة للناس وأمنا} فيه إشارة أولا إلى أن الكعبة مثابة للناس ، يجيئون إليها في حجهم ، كما صرح سبحانه وتعالى ، وفيها قبلتهم إذ يثوبون إليها في الصلاة ويلتفون حولها التفاف الدائرة حول قطبها ، فهم يتجهون إليها من كل أرض الله تعالى .
وإن باني الكعبة المكرمة إبراهيم عليه السلام هو وابنه إسماعيل عليه السلام ، وإنه ليبقى الاتصال بين الحاضر والماضي أمر الله تعالى أن يكون مقام إبراهيم للبناء مصلى لمن جاء بعده من الذين سماهم إبراهيم المسلمين ، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولذا قال الله تعالى:{ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} قرئ بالطلب بكسر الخاء ، وقرئ بالفتح على أنها خبر ، وفي الحالين هي معطوفة على{ جعلنا} فعلى قراءة فتح الخاء يكون المعنى جعلناه للناس مثابة وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ، وعلى قراءة الأمر يكون عطف جملة طلبية على مثلها ؛ لأن{ جعلنا} وإن كانت بلفظ الخبر ولكن معناه الطلب ؛ لأن المؤدى أنها أمر من الله تعالى بأن يكون البيت مثابة للناس يرجعون إليه ويأوون ويحيطون به في صلاتهم إحاطة الدائرة بقطبها ، وأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى .
و{ مقام} اسم مكان القيام ، أي الشيء الذي قام إبراهيم عليه يبني البيت بمعاونة إسماعيل عليهما السلام ، وقد قالوا إنه الحجر الذي يعرفه الناس ، في الحج ، واتخاذه مصلى ، أي اتخاذ المكان الذي هو فيه مصلى أي مكانا للصلاة فالمصلى اسم مكان للصلاة .
وفي البخاري أن مقام إبراهيم الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت{[107]} وغرقت قدماه فيه ، وقال أنس:رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه .
وإن اتخاذ مقام إبراهيم مكانا للصلاة إبقاء لذكر إبراهيم عليه السلام وتنويها بالصلاة في ذاتها وأنها الصلة بين الماضي والحاضر ، وقد كانت بأمر الله تعالى ، وليست بدعا قد أتيها .
وقد تكلم المؤرخون في الحجر الذي قام عليه إبراهيم لبناء الكعبة المكرمة ، وأوثق من قال في ذلك ابن كثير ، لقد قال في ذلك:"مقام إبراهيم هو الحجر الذي صلى عنده ، وهذا الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه عند بناء البيت لما ارتفع الجدار ، أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة ، فيضعها بيده لرفع الجدار وكان كلما أكمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى يطوف حول الكعبة ، وهو واقف عليه وكلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها ، وهكذا حتى تم بناء جدران الكعبة".
ويقول ابن كثير في موضعه الذي وضعه إبراهيم بعد البناء:"وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما ومكانه معروف اليوم إلى مكان الباب مما يلي الحجرة يمين الداخل من البقعة المستقلة هناك ، وكأن الخليل عليه السلام ، لما فرغ من بناء الكعبة ، وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك ، ولهذا – والله أعلم – أمر الله تعالى بالصلاة عند الانتهاء من الطواف وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة". اه .
وبهذا تبين أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي كان يقف عليه إبراهيم لإتمام البناء ، ولما أتمه وضعه بجوارها ، وكأن الصلاة عقب الطواف عنده حيث انتهى إبراهيم من البناء وحيث انتهى الطائفون من طوافهم . ولقد جاء في العام السابع عشر من الهجرة سيل شديد نقل الحجر من موضعه فهال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وركب إلى مكة وتحرى الموضع الذي كان فيه الحجر فوضعه فيه رضي الله تعالى عنه . لقد أقام البناء للبيت العتيق نبيان ، وبهذا البناء بنيا مجد العرب وبنيا أمنهما ومكان عبادة الناس ، ومثابتهم التي يستقبلونها فيحيطون بها .
وقد بنياه طاهرا ، مطهرا ، وعهد الله تعالى إلى اللذين بنياه أن يقوما على استمرار طهارته ليتحقق الغرض الأول ، وهو أن يكون مقصدا للحجيج الطائفين والذين يجاورونه عاكفين على العبادة فيه ، فقال تعالى:{ وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} .
والعهد في هذا النص السامي ، من عهد إلى هذا برعاية بيته أو أهله في غيبه . فمعنى{ وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل} ، أي جعلنا لهما عهدا وفوضناهما برعاية البيت إنشاء وتطهيرا وقوله تعالى:{ أن طهرا بيتي} تفسير للعهد المذكور ، وتطهيره هو التطهير من الرجس الحسي من الخبائث الحسية ، والتطهير المعنوي بأن يخصص لعبادة الله تعالى وحده فلا يكون مكانا لوثن ، ولا معبدا لغير الله تعالى ، وقال تعالى في هذا المعنى السامي:{ وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ( 26 )} [ الحج] .
ويصح على هذا أن نقول إن العهد أن يبنياه مطهرا من كل خبث في بنائه بقلب سليم ، ونفس مخلصة لوجه الله تعالى ، وأن يجعلاه طاهرا معنى وحسا ليكون للقاصدين له من غير مكة ، والمقيمين حوله ، وسماهم هنا العاكفين مشيرا إلى أن البقاء بجواره مجاورين له قائمين بحقه عبادة ، وعبر في الآية الأخرى بالقائمين أي المستمرين حوله . والطائفون عند أكثر الكاتبين هم القادمون للطواف وحج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلا ، وإنه مع أنه موطن الحجيج الطوافين والمقيمين حوله مجاورين معتكفين هو مسجد الله تعالى تقام فيه الصلاة ، فيكون لهؤلاء الطائفين العاكفين ويكون للمقيمين للصلاة ، وأشار إليهم سبحانه بقوله تعالت كلماته:{ والركع السجود} هم الراكعون وهو جمع تكسير ، وهم الذين يخضعون لله تعالى راكعين متضرعين متبتلين ، والسجود جمع ساجد ، كقعود جمع قاعد ، ورقود جمع راقد . ويراد الركوع الذي هو ركن الصلاة ، والسجود الذي هو الركن أيضا ، واكتفى بذكرهما دون بقية الأركان من قراءة وقيام وقعود ؛ لأنهما مظهر الخضوع الكامل ، والتطامن لرب العالمين .