بعد أن بنى خليل الله أبو الأنبياء بيت الله تعالى بأمر ربه اتجه ضارعا إليه ، أن يجعل ما حول البيت آمنا ، وقد أقاموا في مكان جدب ؛ ولذا دعا ربه أن يرزقهم من الثمرات ، فقال تعالى حاكيا دعاءه:{ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات} وفي هذا دعاء إلى أن يكون ما حول البيت بلدا آمنا ، وأن يرزقه من الثمرات وهذا يشير إلى أنه عند بناء البيت لم يكن البلد قد تكون ، ولكن آية أخرى تشير أن هنا بلدا متكونا ؛ ولذلك ذكر بالتعريف ، فقال تعالى:{ رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ( 35 )} [ إبراهيم] .
وقال بعض المفسرين إن الدعوة قد تكررت ، فالدعوة الأولى كانت ولم يكن البلد ، ولذلك كانت الدعوة بتكوين البلد وجعله آمنا ، كما في قوله تعالى:{ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون27} [ إبراهيم] وإنه عند تمام البيت استجاب الله تعالى لنبيه ، فأخذ الناس يأوون إليه يبنون ويقيمون الخيام ، وإن البلد ينشأ بعد بضع سنين فلما نشأ ، وإبراهيم ذو ضراعة ، وأواه حليم دعا فقال:{ رب اجعل هذا بلدا آمنا} وخشي من الكثرة النسبية في البلد الذي وجد أن يكون فيهم عبدة الأوثان فضمن دعاءه قوله{ واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} ، وإن كثيرين يرون أن طلب إبراهيم عليه السلام كان منصبا على الأمن ، والإشارة إلى المكان ، فالمعنى اجعل هذا بلدا موصوفا بالأمن ، ويكون المطلوب الأمن ، كما تقول مشيرا إلى ابنك اجعل هذا ابنا بارا ، ويكون المراد وصفه بالبر ، وقد أجاب الله سبحانه تضرعه ، فجعله بيتا آمنا ، ويتخطف الناس من حولهم .
{ وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر} ، والرزق الإعطاء والتمكين ، ومن هنا للبعضية ، أي ارزقهم بعض الثمرات فكان الطلب قانعا غير مسرف فيه ، وكذلك شأن الذين لا يسرفون على أنفسهم ، والثمرات ظاهرها أنه يكون مما تنبت الأرض ، وقد أعطاه الله تعالى الثمرات في حدائق الطائف وغيرها من نخيل وأعناب ، وأعطاهم ثمرات التجارة ، فكانت مكة موطن الاتجار في الجزيرة العربية ، وكانت مزار العرب في الحج ، وقد كان ذلك إجابة لإبراهيم خليل الله تعالى إذ قال:{ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون37] [ إبراهيم] .
وإنه في هذه الآية طلب أن تهوى إليهم أفئدة الناس ، فيقدموا على الحج ، وطلب أن يعطيهم من الثمرات ، كما طلب في الآية الكريمة التي نتكلم في معناها السامي ، وطلب الثمرات لا يتنافى مع أنها غير ذات زرع ، لأن الثمرات من الأشجار لا من الزرع وقد رزقهم النخيل والأعناب ، والفاكهة والرمان ، وغيره مما ينبت في الصحراء .
وخص خليل الله تعالى المؤمنين من ذريته بهذا الدعاء ، فقال:{ وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر} وقوله تعالى:{ من آمن} بدل اشتمال من أهله فكان الطلب لهؤلاء فقط ، وذلك لأن الله تعالى رد طلبه بتخصيص غير الظالمين بالنسبة للإمامة ، إذ قال تعالى بعد إتمام الكلمات التي اختبره الله تعالى بها:{ إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي} فرد الله تعالى طلبه بقوله:{ لا ينال عهدي الظالمين} فظن نبي الله تعالى أن الرزق يكون للمؤمنين فقط كالإمامة ، فبين الله تعالى أن الرزق يعم والإمامة خاصة بالعادلين غير المشركين ، ولذلك قال تعالى ردا لخليله:{ قال ومن كفر} أي أن الرزق يعم ، البرئ والسقيم ، والعادل والظالم ، والمؤمن والكافر ، بخلاف الإمامة التي تكون من الله تعالى ، فلا تكون إلا لمؤمن عادل:ولقد قال تعالى في سورة الزخرف:{ ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ( 33 ) ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون ( 34 ) وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين ( 35 )} [ الزخرف] .
وإن ذلك ليس للمحبة ولا للرضا عن كفره ، ولكنه لاستدراجه إذا لم يرشد ويهتد كما قال تعالى:{ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون 182 وأملي لهم إن كيدي متين183} [ الأعراف] ولذا قال سبحانه ، بعد أن نبه خليله إبراهيم إلى أنه يرزق الكافر{ فأمتعه قليلا} أي أعطيه المتعة أمدا قليلا ، وهو ما يكون في الدنيا ، والدنيا مهما طالت أمد قليل بالنسبة للآخرة التي هي الباقية الخالدة ، وعذابها خالد ، ونعيمها مقيم ،{ ثم أضطره إلى عذاب النار} والعطف بثم هنا ، للدلالة على تفاوت ما أعطاه من رزق وما ادخره من عذاب ، واضطره معناها ألجئه وأسوقه إلى جهنم سوقا ، كما قال:{ يوم يدعون إلى نار جهنم دعا 13} [ الطور] أي يدفعون دفعا ، وكما قال تعالى:{ يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر48} [ القمر] . وبذلك ينالهم عذاب الحرمان ، والإلجاء إلى جهنم فاقدي الاختيار ، لأنه جزاء وفاقا لما قدموا ، والثاني النار الدائمة كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها ، جنبنا الله عقابه ، وغفر الله لنا ، وكتب ثوابه .