{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .( البقرة:126 ) .
التفسير:
قوله تعالى:{وإذ قال إبراهيم} أي اذكر إذ قال إبراهيم:{رب اجعل} أي صيِّر{هذا} أي مكة{بلداً آمناً}؛«البلد » اسم لكل مكان مسكون سواء كان ذلك مدينة كبيرة ،أو مدينة صغيرة ؛كله يسمى بلداً ؛وقد سمى الله سبحانه وتعالى مكة بلداً ،كما في قوله تعالى:{وهذا البلد الأمين} [ التين: 3]؛وسماها الله تعالى قرية ،كما في قوله تعالى:{وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم} [ محمد: 13] .
وقوله تعالى:{آمناً}: قال بعض المفسرين: أي آمناً مَن فيه ؛لأن البلد نفسه لا يوصف بالأمن ،والخوف ؛«البلد » أرض ،وبناء ؛وإنما الذي يكون آمناً: أهلُه ؛أما هو فيكون أمْناً ؛والذي ينبغي هو أن يبقى على ظاهره ،وأن يكون البلد نفسه آمناً ؛وإذا أمِنَ البلد أمِن مَن فيهوهو أبلغ؛لأنه مثلاً لو جاء أحد ،وهدم البناء ما كان البناء آمناً ،وصار البناء عرضة لأن يتسلط عليه من يُتلفه ؛فكون البلد آمناً أبلغ من أن نفسره ب«آمناً أهله » ؛لأنه يشمل البلد ،ومن فيه ؛ولهذا قال تعالى:{وارزق أهله}؛لأن البلد لا يرزق .
قوله تعالى:{ارزق} فعل دعاء ؛ومعناه: أعطِ ؛و{أهله} مفعول أول ؛و{من الثمرات} مفعول ثانٍ ؛و{من آمن بالله واليوم الآخر} بدل من قوله:{أهله}بدل بعض من كل؛و«الإيمان » في اللغة: التصديق ؛وفي الشرع: التصديق المستلزم للقبول ،والإذعان ؛والإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجوده ،وربوبيته ،وألوهيته ،وأسمائه ،وصفاته ؛و{اليوم الآخر} هو يوم القيامة ؛وسمي آخراً ؛لأنه لا يوم بعده ؛وسبق بيان ذلك .
قوله تعالى:{قال ومن كفر}؛القائل هو الله سبحانه وتعالى ؛فأجاب الله تعالى دعاءه ؛يعني: وأرزق من كفر أيضاً ؛فهي معطوفة على قوله تعالى:{من آمن}؛ولكنه تعالى قال في الكافر:{فأمتعه قليلاً ..} إلخ .
قوله تعالى:{فأمتعه} فيها قراءتان ؛الأولى بفتح الميم ،وتشديد التاء ؛والثانية بإسكان الميم ،وتخفيف التاء ؛و «الإمتاع » و «التمتيع » معناهما واحد ؛وهو أن يعطيه ما يتمتع به ؛و«المتعة »: البلغة التي تلائم الإنسان .
قوله تعالى:{قليلاً}: القلة هنا تتناول الزمان ،وتتناول عين الممتَّع به ؛فالزمن قصير: مهما طال بالإنسان العمر فهو قليل ؛قال الله عزّ وجلّ:
{كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} [ الأحقاف: 35]؛كذلك عين الممتع به قليل ؛كل ما يحصل للإنسان من هذه الدنيا من اللذة ،والمتاع قليل بالنسبة للآخرة ،كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لموضع سوطٍ في الجنة خير من الدنيا وما فيها »{[160]} ؛ومع قلته فهو مشوب بكدر سابق ،ولاحق ،كما قال الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا ويوم نُساء ويوم نُسَرُّ ويقول الآخر:
لا طيب للعيش ما دامت منغصة لذاته بادكار الموت والهرم
وإذا شئت أن تعرف حقيقة الأمر فقس ما بقي من حياتك بما مضى ؛الآن كلنا يعرف أننا خلفنا أياماً كثيرة ؛فما خلفنا بالأمس كأنه لا شيء ؛نحن الآن في الوقت الذي نحن فيه ؛وأما ما مضى فكأنه لم يكن ؛ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم واصفاً الدنيا: «إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها »{[161]}: إنسان اطمأن قليلاً تحت ظل شجرة ،ثم ارتحل !هذه الدنيا كلها .
قوله تعالى:{ثم أضطره إلى عذاب النار} أي ألجئه إلى عذاب النار ؛وإنما جعل الله ذلك إلجاءً ؛لأن كل إنسان يفر من عذاب النار ؛لكنه لا بد له منه إن كان من أهل النار ؛لأنه هو الذي فعل الأسباب التي توجبه ؛و «العذاب » العقوبة التي يتألم بها المرء ؛و{النار} اسم معروف .
قوله تعالى:{وبئس المصير}؛{بئس} فعل ماضٍ جامد إنشائي يراد به الذم ؛و{المصير} فاعل{بئس}؛والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هي ؛أي: وبئس المصير هي ؛لأنه لو لم تقدر هذا لم تكن الجملة عائدة على ما سبق ؛و{المصير} بمعنى مكان الصيرورة ؛أي المرجع الذي يصير إليه الإنسان .
الفوائد:
1 من فوائد الآية: التنويه بفضل إبراهيم ؛لأن قوله تعالى:{وإذ قال} سبق أنها على تقدير: واذكر إذ قال ؛ولولا أن هذا أمر يستحق التنويه ،والإعلام ما أمر به .
2 ومنها: أنه لا غنى للإنسان عن دعاء الله مهما كانت مرتبته ؛فلا أحد يستغني عن الدعاء أبداً ؛لقوله تعالى:{رب اجعل ...} إلخ .
3 ومنها: أن للدعاء أثراً في حصول المقصود سواء كان دفع مكروه ،أو جلب محبوب ؛لأنه لولا أن للدعاء أثراً لكان الدعاء عبثاً ؛وقول من يقول: «لا حاجة للدعاء: إن كان الله كتب هذا فهو حاصل ،دعوت أو لم أدعُ ؛وإن كان الله لم يكتبه فلن يحصل ،دعوت أو لم أدعُ » ،فإن جوابنا عن هذا أن نقول: إن الله قد كتبه بناءً على دعائك ؛فإذا لم تدع لم يحصل ،كما أنه لو قال: «لن آكل الطعام ؛فإن أراد الله لي الحياة فسوف أحياولو لم آكل ؛وإن كان يريد أن أموت فسوف أموتولو ملأت بطني إلى حلقومي » ؛نقول: لكن الأكل سبب للحياة ؛فإنكار أن يكون الدعاء سبباً إنكار أمور بديهيات ؛لأننا نعلم علم اليقين فيما أُخبرنا به ،وفيما شاهدناه ،وفيما جرى علينا أن الله سبحانه وتعالى يقدِّر الأشياء بالدعاء ؛فالله تعالى قص علينا في القرآن قصصاً كثيرة فيها إجابة للدعاء ؛كذلك يجري للإنسان نفسه أشياء يدعو الله بها فيشاهدها رأي العين أنها جاءت نتيجة لدعائه ؛فإذاً الشرع ،والواقع كلاهما يبطل دعوى من أنكر تأثير الدعاء .
4 ومن فوائد الآية: رأفة إبراهيم ( ص ) بمن يؤم هذا البيت ؛لأن جعل البيت آمناً يتضمن الإرفاق بمن أمّه من الناس .
5 ومنها: رأفة إبراهيم ( ص ) أيضاً ،حيث سأل الله أن يرزق أهله من الثمرات ؛لقوله تعالى:{وارزق أهله من الثمرات} .
6 ومنها: أدب إبراهيم ( ص ) ،حيث لم يعمم في هذا الدعاء ؛فقال:{وارزق أهله من الثمرات من آمن} خوفاً من أن يقول الله له: «من آمن فأرزقه » ،كما قال تعالى حين سأله إبراهيم أن يجعل من ذريته أئمة:{لا ينال عهدي الظالمين} [ البقرة: 124]؛فتأدب في طلب الرزق: أن يكون للمؤمنين فقط من أهل هذا البلد ؛لكن المسألة صارت على عكس الأولى: الأولى خصص الله دعاءه ؛وهذا بالعكس: عمم .
7 ومنها: أن رزق الله شامل للمؤمن ،والكافر ؛لقوله تعالى:{ومن كفر}؛فالرزق عام شامل للمؤمن ،والكافر ؛بل للإنسان ،والحيوان ،كما قال تعالى:{وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها} [ هود: 6]؛وأنت ترى بعض الخشاش في الأرض ما حوله شيء ،ولكن ييسر الله له الرزق يُجلب إليه من حيث لا يشعر ،ولا يحتسب ؛ويُذكر في هذه الأمور قصص غريبة ،ويشاهَد بعض الحيوانات الصغيرة الصماء العمياء يَجلب الله لها رزقاً كلما احتاجت إلى ذلك ،فتأكله ؛والله على كل شيء قدير .
8 ومن فوائد الآية: أنه يجب علينا أن نتخذ من هذا الوقت القصير عملاً كثيراً ينفعنا في الآخرة ؛لقوله تعالى:{فأمتعه قليلاً}؛والعمل اليسيرولله الحمديثمر ثمرات كثيرة في الآخرة يضاعف بعشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة .
9 ومنها: إثبات عذاب النار .
10 ومنها: إثبات كلام الله عزّ وجلّ ؛لقوله تعالى:{قال}؛وأنه بحرف ،وصوت مسموع ؛والدليل على أنه بحرف أن قوله تعالى:
{ومن كفر} مثلاً مكوَّن من حروف ؛والدليل على أنه بصوت مسموع: المحاورة مع إبراهيم ؛فلولا أن إبراهيم يسمع صوتاً لم تكن محاورة .
11 ومنها: إثبات سمع الله ؛لأنه يسمع إبراهيم وهو يكلمه سبحانه وتعالى .
12ومنها: إثبات اليوم الآخر .
13 ومنها: الثناء على النار بهذا الذم ،وأنها بئس المصير ؛فكل إنسان يسمع هذا من كلام الله عزّ وجلّ سوف ينفر من هذه النار ،ولا يعمل عمل أهلها .