{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .( البقرة:127 ) .
التفسير:
لما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه جعل هذا البيت مثابة للناس بيَّن الله تعالى كيف نشأ هذا البيت ،فقال تعالى:{وإذ يرفع ...} .
قوله تعالى:{وإذ يرفع}؛{إذ} ظرف عاملها محذوف ؛والتقدير: واذكر إذ يرفع ؛و{يرفع} فعل مضارع ؛والمضارع للحاضر ،أو للمستقبل ؛ورفع البيت ماضٍ ؛لكنه يعبَّر بالمضارع عن الماضي على حكاية الحال كأن إبراهيم يرفع الآن ،يعني: ذكِّرهم بهذه الحال التي كأنها الآن مشاهدة أمامهم .
قوله تعالى:{إبراهيم} فيها قراءتان ؛إحداهما: بكسر الهاء بعدها ياء ؛والثانية: بفتح الهاء بعدها ألف:{إبراهام
قوله تعالى:{القواعد} مفعول{يرفع}؛جمع قاعدة ؛وقاعدة الشيء أساسه .
قوله تعالى:{من البيت} بيان للقواعد ؛وهي في محل نصب على الحال ؛والمراد ب{البيت} الكعبة ،كما سبق .
قوله تعالى:{وإسماعيل} عطفاً على قوله تعالى:{إبراهيم}؛فهو مشارك لأبيه في رفع القواعد ؛وأخّر ذكر إسماعيل ؛لأن الأصل: إبراهيم ؛وإسماعيل مُعِين ؛هذا الظاهروالله أعلم.
قوله تعالى:{ربنا تقبل منا}؛«رب » منادى حذفت منه «يا » النداء ؛وأصله: يا ربنا ؛حذفت «يا » النداء للبداءة بالمدعو المنادىوهو الله؛وجملة:{ربنا تقبل منا} عاملها محذوف تقديره: «يقولان » ؛وجملة: «يقولان » في موضع نصب على الحال ؛ودعَوَا الله سبحانه وتعالى باسم «الرب »؛لأن إجابة الدعاء من شأن الربوبية ؛لأنها خلق وإيجاد .
قوله تعالى:{ربنا تقبل منا} يعني كل واحد يقول بلسانه: ربنا تقبل منا ؛هذا ظاهر اللفظ ؛و «القبول » أخذ الشيء ،والرضا به ؛ومنه ما يذكره الفقهاء في قولهم: ينعقد البيع بالإيجاب ،والقبول ؛فتقبُّلُ الله سبحانه وتعالى للعمل أن يتلقاه بالرضا ،فيرضى عن فاعله ؛وإذا رضي الله تعالى عن فاعله فلا بد أن يثيبه الثواب الذي وعده إياه .
قوله تعالى:{إنك أنت السميع العليم}: هذه الجملة تعليل لطلب القبول ؛يعني: نسألك أن تقْبل لأنك أنت السميع العليم: تسمع أقوالنا ،وتعلم أحوالنا ؛وهذه الجملة مؤكدة بمؤكدين ؛أحدهما: «إنّ »؛والثاني:{أنت}؛ومن المعلوم أن ضمير الفصل يفيد التوكيد ؛وضمير الفصل لا محل له من الإعراب ؛و{السميع} خبر «إن »؛وقوله تعالى:{العليم} أي ذو العلم .
الفوائد:
1من فوائد الآية: فضل عمارة الكعبة ؛لأن الله تعالى أمر نبيه أن يذكر هذه الحادثة ؛لقوله تعالى:{وإذ يرفع ...} إلخ .
2 ومنها: فضل إبراهيم ،وإسماعيل ،عليهما الصلاة والسلام ،حيث قاما برفع هذه القواعد .
3 ومنها: أن من إحكام البناء أن يؤسس على قواعد ؛لقوله تعالى:{وإذ يرفع إبراهيم القواعد}؛وإذا بني على غير قاعدة فإنه ينهار .
4 ومنها: جواز المعاونة في أفعال الخير .
5 ومنها: أهمية القبول ،وأن المدار في الحقيقة عليه ؛وليس على العمل ؛فكم من إنسان عمل أعمالاً كثيرة وليس له من عمله إلا التعب ،فلم تنفعه ؛وكم من إنسان عمل أعمالاً قليلة قبلت فنفعه الله بها ؛ولهذا جاء في الحديث: «رب صائم حظه من صيامه الجوع ،والظمأ ؛ورب قائم حظه من قيامه السهر »{[162]} .
6 ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله ؛وهما{السميع} ،و{العليم}؛وكل اسم من أسماء الله يدل على صفة من صفاته ؛بل على صفتين أحياناً ،أو أكثرما يلزم من إثبات الصفة التي يدل عليها الاسم؛مثال ذلك: «الخالق » دل على صفة الخلق ؛وصفة الخلق تستلزم ثبوت صفة العلم ،والقدرة ؛وقد يدل الاسم على الأثر إذا كان ذلك الاسم متعدياً ؛مثاله:{السميع} يدل على صفة السمع ،ويدل على أن الله يسمع كل صوت يحدث .
7 ومن فوائد الآية: إثبات السمع لله عزّ وجلّ ؛وينقسم السمع إلى قسمين: سمع بمعنى سماع الأصوات ؛وسمع بمعنى الإجابة ؛فمثال الأول قوله تبارك وتعالى:{أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى} [ الزخرف: 80] ،وقوله تعالى:{قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} [ المجادلة: 1]؛ومثال الثاني قوله تعالى:{إن ربي لسميع الدعاء} [ إبراهيم: 39] أي مستجيب الدعاء ؛وكذلك قول المصلي: «سمع الله لمن حمده »يعني استجاب لمن حمده؛والسمع الذي هو بمعنى سماع الأصوات من صفاته الذاتية ؛والسمع بمعنى الاستجابة من صفاته الفعلية ؛لأن الاستجابة تتعلق بمشيئته: إن شاء استجاب لمن حمده ؛وإن شاء لم يستجب ؛وأما سماع الأصوات فإنه ملازم لذاتهلم يزل ،ولا يزال سميعاً؛إذ إن خلاف السمع الصمم ؛والصمم نقص ؛والله سبحانه وتعالى منزه عن كل نقص ؛وكلا المعنيين يناسب الدعاء: فهو سبحانه وتعالى يسمع صوت الداعي ،ويستجيب دعاءه .
والسمعأعني سماع الأصواتتارة يفيد تهديداً ؛وتارة يفيد إقراراً ،وإحاطة ؛وتارة يفيد تأييداً .يفيد تهديداً ،كما في قوله تعالى:{لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا ...} [ آل عمران: 181] الآية ،وقوله تعالى:{أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى} [ الزخرف: 80] ويفيد إقراراً ،وإحاطة ،كما في قوله تعالى:{قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} [ المجادلة: 1]؛ويفيد تأييداً ،كما في قوله تعالى لموسى وهارون:{إنني معكما أسمع وأرى} [ طه: 46] .
8 ومن فوائد الآية: إثبات العلم للهتبارك وتعالىجملةً ،وتفصيلاً ؛موجوداً ،أو معدوماً ؛ممكناً ،أو واجباً ،أو مستحيلاً ؛مثال علمه بالجملة: قوله تعالى:{لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً} [ الطلاق: 12] ،وقوله تعالى:{الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً} [ طه: 98] ،ومثال علمه بالتفصيل: قوله تعالى:{وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [ الأنعام: 59]؛ومثال علمه بالموجود: ما أخبر الله به عن علمه بما كان ،مثل قول الله تعالى:{علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} [ البقرة: 187]؛ومثال علمه بالمعدوم الذي قد وجِد: ما علمه الله من أحوال الماضين ؛ومثال علمه بالمعدوم الذي لم يوجد بعد: ما علمه الله عزّ وجلّ من أحوال القيامة ،ومآل الخلق ؛ومثال علمه بالممكن: ما علمه الله عزّ وجلّ من الحوادث الواقعة من الإنسان ؛ومثال علمه بالواجب: ما علمه الله عزّ وجلّ من كمال صفاته ؛ومثال علمه بالمستحيل: قوله تعالى:{ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} [ المؤمنون: 91] ،وقوله تعالى:{لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [ الأنبياء: 22] .
واعلم أن من أنكر علم الله فهو كافر سواء أنكره فيما يتعلق بفعله ،أو فيما يتعلق بخلقه ؛فلو قال: إن الله تعالى لا يعلم ما يفعله العبد فهو كافر ،كما لو قال: إن الله لا يعلم ما يفعله بنفسه ؛ولهذا كفَّر أهل السنة والجماعة غلاة القدرية الذين قالوا: إن الله سبحانه وتعالى لا يعلم أفعال العباد ؛فالذي ينكر علم الله بأفعال العباد لا شك أنه كافر ؛لأن الله تعالى يقول:{ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} [ ق: 16] ،ويقول سبحانه وتعالى:{أم يحسبون أنا لا نعلم سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون} [ الزخرف: 80]؛فالذي يقول: إن الله لا يعلم أفعال العباد فإنه كافر بهذه الآيات ؛ولهذا قال الشافعي في القدرية: «ناظروهم بالعلم فإن أقروا به خُصِموا ؛وإن أنكروه كفروا » ؛وإيمانك بهذا يوجب لك مراقبته ،والخوف منه ،وامتثال أمره ،واجتناب نهيه ؛لأنك متى علمت أنه عالم بك فإنك تخشاه ؛تستحيي منه عند المخالفة ؛وترغب فيما عنده عند الموافقة .
9 ومن فوائد الآية: التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته المناسبة لما يدعو به ؛لقوله تعالى:{إنك أنت السميع العليم} .
10 ومنها: أن الدعاء يكون باسم «الرب »؛لأن إجابة الدعاء من شأن الربوبية ؛لأنها خَلْق ،وإيجاد .