شخصيّة إبراهيم النبيّ امتداد للإسلام:
ويتابع القرآن حديث إبراهيم في قصة جديدة تتصل بالتاريخ الديني في قصة النبوّات من جهة ،وترتبط بعلاقة الإسلام بالامتداد الرحب لشخصية إبراهيم في تطلعاتها المستقبلية من جهة أخرى ،وتلك هي قصة بناء البيتالكعبة الحرامالذي أراده اللّه مرجعاً للنّاس يرجعون إليه ويثوبون ،كقاعدة روحية يعيشون فيها الشعور بالوحدة الروحية التي تربط بعضهم ببعض بين يدي اللّه ،ويطوفون به في إحساس عميق بعبوديتهم للّه ،وفي استيحاء الفكرة الإيمانية المتحرّكة ،حيث يستلهمون منه أن يكون طوافهم في الحياة حول كلمات اللّه وتعاليمه ومفاهيمه ،ويشعرون في ظلاله بالأمن الذي أراده اللّه طابعاً مميّزاً لهذا البيت في ما أوحى به إلى الأنبياء في شرائعهم ؛من حرمة الاعتداء على النّاس والإساءة إليهم حتى في الحالات المشروعة في ذاتها .فقد ورد في بعض الأحاديث عن أئمة أهل البيت ( ع ) ،أنَّ الحدّ لا يُقام على الجاني في مكة إلاَّ إذا كانت جنايته في مكة بالذات ...وكأنَّ اللّه أراد أن يجعل من هذا البيت قاعدة سلام يجتمع إليها النّاس من دون إحساسٍ بالخوف وبالمشاعر المضادّة التي تمنعهم من اللقاء .ثُمَّ أراد اللّه أن يكرِّم جهد نبيّه إبراهيم في بناء البيت وفي إخلاصه العميق له ،فطلب من النّاس أن يتخذوا من مقام إبراهيم موضعاً للصلاة ،تخليداً لإيمانه وتحيّةً لإخلاصه للّه في سرِّه وعلانيته ،ولاستجابته للّه في ما يريده منه .هذا من جهة ،ومن جهةٍ أخرى ليعيش النّاس في أجواء إبراهيم كقدوةٍ في كلّ المعاني الروحية الكبيرة ،فتمتزج صلاتهم بصلاته ،ودعواتهم بدعواته وابتهالاتهم بابتهالاته في تفاعل روحيّ عظيم .
ثُمَّ عهد إليه وإلى ولده إسماعيل ،أن يجعلا هذا البيت طاهراً من كلّ دنسٍ ،سواء كان ذلك من مظاهر الشرك والوثنية ،أو من عناصر القذارة والنجاسة ،أو من الأشخاص الذين يدخلون فيه من حيث نظافتهم من القذارات المادية والمعنوية ،ليعيش النّاس الذين يطوفون به ،أو يقيمون فيه للاعتكاف ،أو يصلّون فيه فيركعون ويسجدون ،في أجواء روحية طاهرة مادية ومعنوية .
وربما استفاد الإنسان من الأمر بتطهير بيت اللّه من كلّ رجسٍ ،أن يكون البناء على هذا الأساس ،وذلك بتشييده على هذه الصفة ،لا بتطهيره بعد بنائه ،كما قد يتوهم ،لأنَّ ظاهر الآيات هو أنَّ إبراهيم وإسماعيل هما اللذان قاما ببناء البيت .
إبراهيم في تطلّعاته المستقبليّة:
ويثير القرآن أمامنا تطلّعات إبراهيم المستقبلية ؛فهو لا يريد لعمله هذا أن يظلّ في نطاق هذا البناء المتمثّل بالكعبة ،بل يريد له أن يتحوّل إلى بلدٍ واسعٍ كقاعدة بشريّة للسلام ،ولهذا نجده يدعو اللّه أن يجعله بلداً آمناً يجتمع فيه المؤمنون باللّه حول هذا البيت ،فيلتقون على طاعة اللّه وعبادته ،وتمتد بهم الحياة في مجتمعٍ إنساني آمن ؛ويفكر فيهم كيف يعيشون في هذا الجوّ الذي لا يُنبتُ الزرع ولا يقدّم للإنسان أيّ شرط من شروط الحياة الكريمة ،فيلجأ إلى اللّه لكي يرزق أهله من المؤمنين الثمرات ،أمّا الكافرون فلم يلتفت إليهم ولم يشعر بضرورة الاهتمام بهم ،لأنه لا يريد لهم أن يعيشوا في أجواء هذا البيت ،خوفاً من أن يشوّهوا روحيته ويعطلوا دوره ،ولأنه لا يجد أيّ أساسٍ للاهتمام بالكافرين الذين يكفرون بنعمة اللّه ويجحدونها ويفسدون في الأرض ،فتركهم للّه ،فهو الذي خلقهم ،وهو أعلم بما تقتضيه الحكمة في ذلك كلّه .
ويستجيب اللّه دعاءه كما توحي هذه الآيات ،فقد تحدّث اللّه عن الكافرين الذين لم يذكرهم إبراهيم في دعائه ،فأراد اللّه أن يكمّل الصورة ،فأوحى إليه أنه لا يستثني الكافرين من متع الحياة الدنيا ،لأنَّ عطاءه لا يختص بأحد دون أحد في الدنيا ،فهو يعطي الكافرين كما يعطي المؤمنين ،لأنَّ العطاء في الدنيا لا ينطلق من فكرة الثواب والتكريم ،بل ينطلق من الإمداد للكافرين ،والبلاء للمؤمنين ،ولكن الدار الآخرة هي التي يختص فيها المؤمنون برحمة اللّه ولطفه ورضوانه ،بينما يقف الكافرون هناك ليضطرّهم إلى عذاب النّار ،وبئس المصير ،جزاءً لكفرهم وجحودهم ،ولم يتحدّث عن المؤمنين إيذاناً بأنَّ دعاء إبراهيم قد صادف موقعه .
إبراهيم وإسماعيل يعملان على تأسيس الروح المؤمنة المسلمة:
وتتجسد الصورة أمامنا ،ويبرز المشهد واضحاً في قوّةٍ وحياة ،كما لو كنا ننظر ونستمع ؛فهذا هو إبراهيم وولده إسماعيل يقفان ليرفعا قواعد البيت في عملٍ يستغرق كلّ جهدهما واهتمامهما ،ويشعران في هذا الجوّ بعباديّة العمل ،تماماً كأيّة فريضةٍ عباديّة ؛ونستمع إليهما كما لو كان الصوت يهزّ أسماعنا في لهاث العاملين الخاشعين المجاهدين ،ونصغي بقلوبنا إلى ذلك الدعاء الخاشع الذي ينساب من أعماق الأعماق في روحية طاهرة ،كأنها هينمات الفجر عندما يتنفس في الفضاء ،فتتصاعد أنفاسه نوراً وسلاماً وحياةً وروحانيةً وبركةً .إنها الروح المؤمنة الصافية ،تعبِّر عن نفسها في ابتهالات حبيبةٍ خاشعةٍ ،فتحتضن في تطلّعاتها كلّ انطلاقات الحياة الوديعة السابحة في بحيرات الصفاء ...
وهوبعد ذلكدعاء العاملين الذين يتحرّك الدعاء لديهم من مواقع العمل لا من حالات الاسترخاء ،فتحسُّمع الدعاءكما لو كانا يقدّمان تقريراً لربهما يحمل معه شظايا الروح وخفقات القلب وهدهدات الشعور في أحلام المستقبل ...إنهما يتطلّعان إلى أن يعرفا في خطوات عملهما رضى اللّه وقبوله ؛فليس المهمّ أن ينجحا في عيون الآخرين أو يكونا مقبولين لدى المجتمع الذي يعيشان فيه ،بل المهمّ أن يعيشا الشعور بالرضى والقبول من اللّه ،فهو الغاية في كلّ عمل ...إنهما يطلبان من اللّه أن يتقبل منهما هذا العمل ،فهو السميع الذي يسمع طلبات عباده ويعلم ما في قلوبهم في ما يعملون ويتركون ..ويتجاوزان هذا العمل فيمتدان إلى كلّ مجالات حياتهما العملية في حاضرها ومستقبلها ،ويبتهلان إليه أن يجعلهما يعيشان إسلام القلب والفكر والجوارح واللسان للّه ،لتكون حياتهما صورةً متجسدة لإرادة اللّه وأمره ...
وينتقلان في تطلّعاتهما وتمنياتهما إلى ذريتهما ،فلا يريدان لهذه الذرية أن تنحرف عن اللّه سبحانه ،بل يتطلّعان إلى أن تعيش الإسلام للّه ،فتولد منها الأمّة المسلمة الممتدة التي تحوِّل الحياة كلّها إلى إسلام يتحرّك في كلّ اتجاه ،لتتجسّد عبودية الإنسان للّه في صدقٍ وإخلاص .ويختمان هذه التطلّعات بالرغبة إلى اللّه أن يعرِّفهما أصول مناسكهما أو مواضعها ،وأن يتوب عليهما لأنَّ التوبة تجسّد المعنى الذي يوحي برضى اللّه وثوابه ورحمته ،وليس من الضروري أن تكون مسبوقةً بالذنب في أيّ حال من الأحوال .
إبراهيم وولده يخطّطان للإسلام الحركيّ:
ثُمَّ يتجه الدعاء اتجاهاً آخر ؛فقد لا يكفي أن يُسلم الفرد وجهه للّه ،أو يسلم المجتمع حياته للّه إذا لم يكن هناك مضمون فكري وعملي يحقّق للإسلام المعنى الحيّ المتحرّك الذي يحقّق للحياة أن تكون صورةً لإرادة اللّه في ما يفعله الإنسان أو يتركه ،وذلك من خلال الرسالات التي تضع للإنسان الخطوط التفصيلية الواضحة المحدّدة لحركته في الحياة ،وتشير إلى الأهداف الكبيرة التي تحكم مسيرته في الكون ،لتكون الصلة باللّه عميقة ،منفتحة في نطاق الوسيلة والهدف ،فلا لبس هناك ولا غموض ولا انحراف ،بل هو الوضوح في الرؤية والاستقامة في الخطّ والانفتاح الواعي على اللّه في كلّ إرادته ...فكان الدعاء الأخير أن يبعث اللّه في أفراد هذه الأمّة التي تعيش في هذا البلد رسولاً منهم ،فيعرف كلّ نوازعهم وأوضاعهم وتطلّعاتهم وعقلياتهم ...فيتلو عليهم آياته بالأسلوب الذي يتناسب مع عقلياتهم وأفكارهم ،ويعلّمهم الكتاب الذي أنزله اللّه عليهم والحكمة التي يتضمنها ذلك الكتاب ،ويزكيهم بمواعظه ونصائحه وسيرته ،لتتحوّل الأمّة إلى خطّ الوعي والريادة التي تعيش المسؤولية في حمل الرسالة بعيداً عن كلّ النوازع الذاتية والآفاق الضيّقة .
الكعبة مثابة وأمن:
{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ{الكعبة الحرام{ مَثَابَةً للنّاس}مرجعاً ومآباً يثوبون إليه ويقصدونه من كلّ مكان ،فيكون موقعاً لحركتهم العبادية ومناسبةً لاجتماعهم من خلال قدومهم إليه ورجوعهم منه ؛وقيل: مكاناً للثواب يثيب اللّه فيه عباده على حجّهم إليه وعبادتهم له ،كما في مفردات الراغب الأصفهاني .{ وَأَمْناً}يأمن فيه النّاس على أنفسهم من الظلم والاضطهاد والقتل ،لأنَّ اللّه جعله ساحةً للسلام ،فلم يرخص لأحد في الاعتداء على أحد ،ليعيش النّاس هذه التجربة الروحية التي يتمرّدون فيها على غرائزهم ونوازع الانتقام في ذواتهم ،وينمّون عناصر الخير والعفو والتسامح في أخلاقهم من موقع الجهاد النفسي الذي يفرض فيه الإنسان على نفسه الصبر على المشاعر الانتقامية .
وقيل: إنَّ هذا التشريع تحوّل إلى واقع حيّ في حياة النّاس الذين يعظِّمون البيت الحرام ويقدّسونه ،حتى كان الرّجل يلقى قاتل أبيه فلا يتعرّض له .وقد تحدّث اللّه عن ذلك في آية أخرى في قوله تعالى:{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخطّفُ النّاس مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللّه يَكْفُرُونَ}[ العنكبوت:67] .ولا يخفى ما في ذلك من النعم والبركات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية .
ثُمَّ أمر اللّه المسلمين أن يتخذوا من مقام إبراهيم ،الملاصق للبيت أو الواقع خلفه مصلًّى ،فقال:{ وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}أي مكاناً يصلّون فيه ،وقد فرض اللّه على الحجّاج والمعتمرين الإتيان بركعتي الطواف بعد الطواف بالبيت ،خلف مقام إبراهيم ،مهما أمكن .{ وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ}اللذين أوكل اللّه إليهما مهمة بناء البيت{ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ}الذي أردته مكاناً للطواف والاعتكاف والركوع والسجود ،ولغير ذلك من ألوان العبادة للّه ،فكان لا بُدَّ من أن يكون طاهراً من الأصنام التي تمثّل الشرك الذي ينافي التوحيد ،ومن كلّ القذارات[ 4] المادية والمعنوية والقولية التي تتنافى مع أجواء العبادة .والمقصود من هذا العهد الإلهي لهما أن يؤسساه على الطهارة الكاملة{ لِلطَّآئِفِينَ}الذين يطوفون بالبيت ،{ وَالْعَاكِفِينَ}أو المعتكفين الذين يقومون بالمسجد ويلازمونه ويجاورون فيه للعبادة ،{ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}الذين يركعون ويسجدون للّه في صلاتهم .