ذكر اللّه:
هل يُراد للبسملة أن تكون كلمةً قرآنيةً يردّدها المؤمنون في قراءتهم وفي ذكرهم التقليدي للّه ،ثُمَّ لا شيء غير ذلك ؟!
أم أنَّ هناك شيئاً أعمق من ذلك ؟
ربما نحتاج إلى الدخول في رحاب القرآن لنستعرض الآيات الكثيرة التي تؤكد على مسألة ذكر اللّه في داخل حركة الزمن: [ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً] [ الإنسان:25] ليكون اسم اللّه هو ما يبدأ الإنسان به ويختم ،كإيحاء بالشعور العميق بالزمن الذي ينفتح على اللّه ،لينفتح الإنسان من خلاله على حركة المسؤولية في حياته .كما يؤكد عليها في الحالة الداخلية كوسيلةٍ من وسائل التفاعل مع المضمون الحيّ لاسم اللّه ،في سبيل تعبئة الناحية الشعورية بالتضرع إلى اللّه من خلال الحاجة إليه وإلى رضوانه ،وبالخوف منه من خلال التخلص من عقابه ،وذلك من أجل إيجاد الوعي الروحي الذي يعيش فيه الإنسان الحضور الإلهيّ في شخصيته ،فلا يكون غافلاً عنه .
[ واذكُر ربَّك في نَفسِكَ تضَرُّعاً وخِيفَةً ودون الجهرِ من القول بالغدو والأصال ولا تكُن من الغافلين] [ الأعراف:205] .
[ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً] [ المزمل:8] .
وهكذا أراد اللّه أن نذكره في مقام التسبيح باسمه ،وفي مقام الانفتاح على التزكية ،وعلى الصلاة .
[ سَبِّح اسم ربِّك الأعلى] [ الأعلى:1] .
[ قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكَّى * وَذَكَر اسم ربِّه فَصَلَّى] [ الأعلى:1415] .
كما أرادنا أن نذكره عندما نبدأ القراءة ،لتكون القراءة باسمه ،[ اقرأ باسمِ ربِّك الذي خَلَقَ] [ العلق:1] .
وقد ورد التأكيد على أنَّ الحيوان لا يحلّ ذبحه إلاَّ إذا ذكر اسم اللّه عليه [ ولا تأكُلُوا مما لم يُذكر اسمُ اللّهِ عليهِ وإنَّه لفسقٌ] [ الأنعام:121] .
[ فكُلُوا مما ذُكر اسم اللّه عليه إن كُنتُم بآياته مؤمنين] [ الأنعام:118] .
وهكذا تتنوّع الآيات التي تتحدّث عن ذكر اللّه وعن الذاكرين للّه ،في ما يمثّله ذلك من قيمةٍ روحيةٍ كبيرةٍ تتصل بالمستوى الإيماني للإنسان المسلم ،وبالدرجة الرفيعة التي يحصل عليها عند اللّه سبحانه وتعالى .
إننا نستطيع أن نخرج من هذا العرض السريع بنتيجةٍ محدّدةٍ ،وهي أنَّ اللّه يريد لعباده أن يذكروه دائماً في كلّ أمورهم ،وأن يربطوا به كلّ تحرّكاتهم وأوضاعهم ،ليظلّ وعيهم الإيماني في الحضور الإلهي في فكرهم وشعورهم منفتحاً على اللّه ،وليبقى إحساسهم متحركاً في نطاق ارتباط كلّ الأشياء به ،فلا يستسلم الإنسان للحالات التي توحي له باستقلاله الذاتي أو باستقلال الأسباب الواقعية المحيطة به في إدارة قضاياه أو قضايا الكون من حوله ،والتي قد تأتي من خلال الغفلة عن عمق الفقر التكويني الذي يتمثّل في كلّ الموجودات في علاقاتها باللّه .
وهذا ما انطلقت به التربية الإسلامية ،لتجعل بداية كلّ عمل يقوم به الإنسان مرتبطاً باللّه سبحانه وتعالى ،ليتولد لديه الشعور بأنَّ الطاقة التي يبذلها والأفكار التي يطلقها ليست شيئاً ذاتياً ،بل هي شيءٌ مستمدٌّ من اللّه ،بسبب ما أودعه في كيانه من أجهزة ،وما أحاطه به من إمكاناتٍ ،وهداه إليه من وسائل .
بين الارتباط باللّه والثقة بالنفس:
وليس معنى ذلككما قد يخيّل للبعضأن يبتعد الإنسان عن الإحساس بالثقة بنفسه ،ليكون مجرّد خشبةٍ في مجرى التيار ،أو ورقةٍ في مهبّ الريح ،فيوحي لنفسه دائماً بأنه لا يملك إرادته ،ولا يسيطر على حركته ،ولا يستطيع أن يتحكّم بتحديد مصيره ،في ما تفرضه عليه العقيدة الإيمانية من ذلك كلّه ،بل إنَّ المسألة ،في بُعدها الفكري العقيدي ،تؤكد الثقة بالنفس ،من خلال ثبات الأجهزة المودعة في داخل كيانه في نطاق العقل والإرادة والحركة الخاضعة للقوانين الإلهية المتحكمة ببنية الكيان الإنساني وفاعليته ،ومن خلال ثبات السنن الكونية التي أقام اللّه الكون عليها في حركة نظامه وفي مفردات الوجود في داخله ،ما يوحي بأنَّ الإنسان يملك استقلاله الذاتي في دائرة النظام الكوني في كيانه وفي ما يحيط به من قوانين الوجود ،وذلك من خلال إرادة اللّه التي تتصرف في الكون كلّه بالحكمة العميقة وبالقدرة المطلقة .
ونستطيع التأكيد بأنَّ هذا الارتباط الكلّي باللّه القدرة والرحمة والعلم والحكمة ،يمنح الإنسان الشعور الكبير بالثقة ،بدرجةٍ أكبر ،لأنه يستند إليه ويستعين به في مواجهة كلّ عوامل الضعف الداخلية والخارجية التي تتحداه ،من دون أن ينتقص ذلك من حريته ومصداقيته .
إنَّ الاستعانة باللّه تمثّلفي المفهوم الإسلاميالاستعانة بمصدر القوّة الأساس في وجوده من ناحية المبدأ والتفاصيل ،تماماً كما هو الحال في التفكير المادّي في السنن الكونية الطبيعية التي يراها أساساً لحركة الوجود المادية ،مع فارق كبير ،وهو أنَّ المؤمن ينفتح على الإرادة الإلهية الحكيمة العليمة القادرة الواعية ،بينما يعيش المادّي في ضبابٍ شديدٍ ..كما أنَّ إرادة اللّه قد تتجاوز السنن الطبيعية في بعض الحالات ،بينما لا يمكن تجاوزها في التصوّر المادّي لحركة الكون والإنسان .
البسملة في إطار المنهج التربوي الإسلامي:
وخلاصة الفكرة ،أنَّ البسملة تمثّل جزءاً من حركة التربية الإسلامية في ارتباط الإنسان باللّه في أفعاله وأقواله ،الأمر الذي يجعلها بمثابة الإيحاء المتحرّك المستمر بأنّ اللّه يقف خلف كلّ وجوده وحركته ،فلا بُدَّ من أن يبدأ الأمور كلّها باسمه ،ليكون ذلك موحياً بأنَّ اللّه هو الذي يعطي الشرعية العملية لما يحتاج إلى مصدر الشرعية ،وأنه هو الذي يعطي القوّة الحركية لما يحتاج إلى مصدر القوّة ،حتى لا ينفصل العمل الإنساني ،في كلّ مواقعه ،عن التصوّر الإيماني للّه ،على أساس أنّه هو القوّة الوحيدة المهيمنة على الأمر كلّه في حركة الكون والإنسان ،باعتبار أنه مصدر التكوين والتشريع ،وبذلك يتأكد إيمان الإنسان في كلّ مواقع الحركة في أبعاد حياته .
وفي ضوء ذلك ،يمكن لنا أن نقرر ضرورة التقيد بذكر البسملة في كلّ المواقع والمواثيق والمعاهدات والخطابات ،باعتبار أنها تمثّل العنوان الإسلامي الذي يوحي بالخطّ الإسلامي الملتزم باللّه في ذلك كلّه .
وقد يكون من الضروري الانتباه إلى طبيعة الخطّة التي يعمد إليها غير المسلمين ،أو غير الإسلاميين ،في الإيحاء بأنَّ ذلك لا يمثّل عنصراً مهماً بالنسبة للقضايا الحيويّة التي تدور بين المسلمين وبين غيرهم على صعيد الاتفاقات ،الأمر الذي يفرض علينافي ما يقولونهأن لا نتوقف أمام هذا الموضوع ،وأن لا نصرّ على التقيّد به ،مما قد ينعكس سلباً على إتمام الاتفاقات أو المواثيق المصيرية عندما يرفض الآخرون ذلك .
إنَّ علينا التنبّه إلى طبيعة هذه اللعبة الخبيثة التي تريد إبعادنا عن الوقوف أمام العنصر الحي من عناصر شخصيتنا الإسلامية في ما ترسمه من الملامح العامة للوجه الإسلامي الأصيل ،وأن نواجه ذلك كلّه بالموقف الذي يؤكد على أنَّ المسألة ليست مجرّد كلمةٍ تُذكر أو تحذف ،بل هي عنوانٌ للخطّ ،وحركةٌ في المسيرة ،ما يجعل الاستهانة بها استهانةً بالمعنى الأصيل الذي تمثّله في معنى العقيدة الإسلامية .
بِسمِ اللّه:
أي: أبتدىء باسم اللّه .وهذا هو المعنى المتبادر من جوّ الكلمة في متعلَّق الجار والمجرور ،لأنّ المقصود هو الابتداء باسم اللّه في إيحاءاته بارتباط الفعل وهو القراءة ،أو الانفتاح على المضمون الذي تشتمل عليه السورة في المعاني العامّة التي أراد اللّه بيانها في تفاصيل آياتها ،لأن البداية عندما تكون [ بسْمِ اللّه] ،فإنها تفتح وعي الإنسان على كلام اللّه النازل من خلال وحيه ،ما يجعل من الابتداء باسمه مدخلاً للانفتاح عليه على أساس ما يرمز إليه اسم اللّه من الذات المقدسة المطلقة التي يرجع إليها الأمر كلّه ،فتكون بداية كلّ شيء منه ونهايته إليه .
وكلمة الجلالة «اللّه » لا تدل إلاَّ على ذاته سبحانه ،بالوضع ،أو لغلبة الاستعمال ،وذلك من خلال التبادر الذي يوحي بذلك .
وعلى ضوء هذا ،فإنَّ الكلمة تحمل الوضوح الصافي المشرق الذي يجعل التصوّر في مستوى الحقيقة التي لا مجال فيها للغموض أو الاشتباه ،بحيث لا يبقى هناك مجالٌ للحاجة إلى أيّ تأويل أو تفسيرٍ ،ولذلك كانت كلمة التوحيد: «لا إله إلاّ اللّه » تعني الالتزام بالوحدانية من دون حاجةٍ إلى أيّ لفظ آخر يكمل المعنى ،لتعيّن المعنى التوحيدي من خلال الكلمة .
الرحمن الرحيم:
هاتان الكلمتان الدالّتان على وصف واحد هو الرحمة ،التي تمثّل ،في مدلولها الإنساني ،حالة انفعالٍ إيجابيٍّ ،تصيب القلب بفعل احتضانه لآلام الآخرين وآمالهم ومشاكلهم ،في رعاية محبَّبةٍ ،وعناية ودودةٍ ،وحنانٍ دافقٍ ،وتنفذ إلى عمق حاجتهم ،إلى العاطفة المنفتحة على كلّ كيانهم الجائع إلى الحنان الظامىء وإلى الحبّ المتحرّك نحو احتواء الموقف كلّه .
أمّا في الجانب الإلهي ،فهي لا تقترب من مشاعر الانفعال الممتنع على اللّه ،لأنه من حالات الجسد المادّي ،ولكنها تنطلق في النتائج العملية المنفتحة على وجود الإنسان الذي يمثّل وجهاً من وجوه حركة الرحمة الإلهية لديه ،وعلى كلّ تفاصيل حياته في النعم التي يغدقها اللّه عليه ،وعلى كلّ مواقع خطاياه التي يغفرها اللّه له ،وعلى كلّ مجالات حركته العامة أو الخاصة في آلامه ومشاكله ليخفّفها عنه أو ليبعدها عن حياته ،وعلى كلّ تطلعاته في أحلامه ليحقّقها له ،وعلى كلّ مصيره في الدنيا والآخرة ليجعل السعادة له في دائرة رضوانه في ذلك كلّه .
الوجود مظهر الرحمة الإلهية:
إنَّ الوجود كلّه هو مظهر الرحمة الإلهية التي هي صفة من صفات الكمال للّه في ما تعبّر عنه من الموقع الرحيم الذي يطل به اللّه على الوجود وعلى الإنسان في كلّ مواقعه في داخل طبيعة الوجود وفي عمق حركته ،وهذا ما يريد اللّه في الإنسان أن يتصوّره به ،ليشعردائماًبقربه إليه من خلال حركة الرحمة التي وسعت كلّ شيء ،باعتبار أنها تلاحق الإنسان لتضمّد له جراحه ،ولتفتح قلبه على الأمل كلّه والخير كلّه ،ولتَعِدَه بمستقبل مشرق كبير .وهذا هو ما يوحي به الدعاء المأثور: «اللّهم إن لم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك فإنَّ رحمتك أهلٌ أن تبلغني وتسعني لأنها وسعت كلّ شيء » .
ولعلّ هذا هو الأسلوب التربوي الذي يعمل على تأكيد التصوّر الإنساني للّه من موقع الرحمة ،ليبقى قريباً منه في مواقع حاجته إليه ،من حيث الأفق الواسع المليء بالعطف واللطف والحنان والرضوان .ولعلّ هذا الأسلوب أيضاً ،هو الذي أوجب التعبير عن الرحمة بكلمتين ،ليزداد تأكيد هذا المضمون في الوعي الشعوري للإنسان تجاه ربه .
وإذا كان التأكيد يمثّل لوناً من التكرار للفكرة ،فإنَّ الحاجة إليه لا تقتصر على دفع احتمال الاشتباه ،كما يقرر النحويون ،بل قد تكون المسألة فيه هي الحاجة إلى تعميق المعنى الذي تتضمنه الكلمة بشكلٍ عميقٍ واسعٍ ،مما لا يحصل الإنسان عليه بالكلمة الواحدة ،فلا ينافي ذلك بلاغة القرآن ،لأنَّ التأكيد في مدلوله التصويري التعميقي لا يكرّر المعنى بشكلٍ جامدٍ ،بل يعمقه بشكل حيٍّ متحرّكٍ .
المفسّرون والفرق بين الرحمن والرحيم:
وقد أفاض المفسّرون في توضيح الفرق بين الكلمتين ،فذهب بعضٌ منهم إلى أن [ الرَّحْمَنِ] هو المنعم بجلائل النعم ،وأنَّ [ الرَّحِيمِ] هو المنعم بدقائقها ،وذهب آخرون إلى أنَّ [ الرَّحمَن] هو المنعم على جميع الخلق ،وأنَّ [ الرَّحِيمِ] هو المنعم على المؤمنين خاصة ،وذهب رأي ثالث إلى أنَّ الوصفين بمعنى واحد ،وأنَّ الثاني تأكيدٌ للأول .
وذكر بعض المفسّرين أنَّ صيغة الرحمن مبالغةٌ في الرحمة ،ويعلّق السيِّد الخوئي ( قده ) عليه فيقول:
«وهو كذلك في خصوص هذه الكلمة ،سواء أكانت هيئة فعلان مستعملةً في المبالغة أم لم تكن ،فإنَّ كلمة [ الرَّحْمَنِ] في جميع موارد استعمالها محذوفة المتعلّق ،فيستفاد منها العموم وأنَّ رحمته وسعت كلّ شيء ،ومما يدلنا على ذلك ،أنه لا يقال: إنَّ اللّه بالنّاس أو بالمؤمنين لرحمن ،كما يقال: إنَّ اللّه بالنّاس أو بالمؤمنين لرحيم » .
أمّا صفة [ الرَّحِيمِ] فهي «صفةٌ مشبّهة أو صيغة مبالغة .ومن خصائص هذه الصيغة أنها تستعمل غالباً في الغرائز واللوازم غير المنفكّة عن الذات ،كالعليم والقدير والشريف والوضيع والسخي والبخيل والعليّ والدنيّ .فالفارق بين الصفتين: أنَّ الرحيم يدل على لزوم الرحمة للذات وعدم انفكاكها عنها ،والرحمن يدل على ثبوت الرحمة فقط ،ومما يدلّ على أنَّ الرحمة في كلمة «رحيم » غريزةٌ وسجيّةٌ: أنَّ هذه الكلمة لم ترد في القرآن عند ذكر متعلّقها إلاّ متعدية بالباء ،فقد قال تعالى:
[ إِنَّ اللّه بِالنّاس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ] [ البقرة:143] ،[ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً] [ الأحزاب:43] .
فكأنها عند ذكر متعلّقها انسلخت عن التعدية إلى اللزوم » .
وهناك وجوهٌ أخرى ،ولكنا لا نجد وجهاً واضحاً لهذه الاحتمالات ،فهي لم ترتكز إلى دليل واضح .
نقاش رأي السيِّد الخوئي ( قده ):
أمّا ما ذكره أستاذنا المحقق السيِّد الخوئيقده،من دلالة كلمة [ الرَّحْمَنِ] على المبالغة في الرحمة ،إمّا لكونها من صيغ المبالغة ،كما ذكر البعض ،وإمَّا لحذف المتعلّق مما يفيد العموم ،فهو غير واضح ،لأنَّ دلالتها على المبالغة لم تثبت ،وربما كانت ملاحظة ما كان على هذا الوزن من الكلمات الأخرى تدفع ذلك ،كما أنَّ حذف المتعلّق لا يفيد العموم دائماً ،فربما كان ذلك من أجل التركيز على المبدأ .أمّا بالنسبة إلى صيغة «فعيل » فقد تستعمل في ما يكون من قبيل الغرائز ،ولكنَّها قد تستعمل في غيره .
وهناك وجه آخر قد يكون أقرب الوجوه إلى الاعتبار ،وهو الذي ذكره بعض المتأخرين ؛وخلاصته أنَّ الوصفيْن متغايران تمام التغاير ،فالرحمن صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة والإحسان ،والرحيم صفة فعل تدل على وصول الرحمة والإحسان وتعدّيهما إلى المنعم عليه .ويدلّ على هذا أنَّ الرحمن لم تذكر في القرآن إلاَّ مجرًى عليها الصفات كما هو شأن أسماء الذات: [ قُلِ ادْعُواْ اللّه أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ] [ الإسراء:110] [ لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ] [ الزخرف:33] [ أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً] [ مريم:91] [ إنِّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ] [ مريم:45] [ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْءَانَ] [ الرحمن:12] [ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[ [ طه:5] وهكذا…
أمّا [ الرَّحِيمِ] فقد كثر استعمالها وصفاً فعلياً ،وجاءت بأسلوب التعدية والتعلق بالمنعم عليه: [ إِنَّ اللّه بِالنّاس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ] [ البقرة:143] [ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً] [ الأحزاب:43] [ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] [ يونس:107] ،كما جاءت الرحمة كثيراً على هذا الأسلوب: [ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ] [ الأعراف:156] [ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ] [ الكهف:16] ،ولم يُرَ في القرآن تعبير ما برحمانية اللّه .
وقد نستطيع التعبير عن هذا الوجه بأنَّ كلمة [ الرَّحْمَنِ] هي صفته في ذاته ،بينما [ الرَّحِيمِ] تمثّل صفته في حركة الرحمة في خلقه .ولعلّ هذا هو المتبادر للذهن من موارد استعمالها ؛واللّه العالم .
موقع البسملة في القرآن:
ويبقى لنا سؤال آخر وهو: هل البسملة آية من القرآن أو أنها آية من الفاتحة فقط ،أو أنها آية مستقلة نزلت للفصل بين السور مرّة واحدة ؟
يذكر بعض المفسّرين ،في ما نقله عن كثير من العلماء ،أنها لم تُعرَف بتمامها عند المسلمين ،إلاّ بعد أن نزلت سورة «النمل » ،وأنهم كانوا يقولون أولاً: «باسمك اللّهم » ،ثُمَّ قالوا: «بسم اللّه الرحمن الرحيم » تبعاً لما جاء في السورة من قوله تعالى: [ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] [ النمل:30] .
ونحن لم نجد لهذا القول مصدراً ثابتاً من الناحية التاريخية التي ذكرها هؤلاء .
وقد «اتفقت الشيعة الإمامية على أنَّ البسملة آية من كلّ سورة بدئت بها .
وذهب إليه ابن عباس ،وابن المبارك ،وأهل مكة كابن كثير ،وأهل الكوفة كعاصم ،والكسائي ،وغيرهما ما سوى حمزة ،وذهب إليه أيضاً غالبُ أصحابِ الشافعي ،وجَزَم به قرّاء مكة والكوفة ،وحكي هذا القول عن ابن عمر ،وابن الزبير ،وأبي هريرة ،وعطاء ،وطاوس ،وسعيد بن جبير ،ومكحول ،والزهري ،وأحمد بن حنبل في رواية عنه ،وإسحاق ابن راهويه ،وأبو عبيد القاسم بن سلام ،وعن البيهقي نقل هذا القول عن الثوري ،ومحمَّد ابن كعب ،واختاره الرازي في تفسيره ونسبه إلى قرّاء مكة والكوفة وأكثر فقهاء الحجاز ،وإلى ابن المبارك والثوري ،واختاره أيضاً جلال الدين السيوطي مدّعياً تواتر الروايات الدّالة عليه معنًى .
وقال بعض الشافعية وحمزة: إنها آية من فاتحة الكتاب خاصة دون غيرها .ونسب ذلك إلى أحمد بن حنبل ،كما نسب إليه القول الأول .
وذهب جماعة منهم: مالك ،وأبو عمرو ،ويعقوب إلى أنها آية فذّة ،وليست جزءاً من فاتحة الكتاب ولا من غيرها ،وقد أُنزلت لبيان رؤوس السور تيمناً وللفصل بين السورتين ،وهو مشهورٌ بين الحنفية .
غير أنَّ أكثر الحنفية ذهبوا إلى وجوب قراءتها في الصلاة قبل الفاتحة ،وذكر الزاهدي عن المجتبى أنَّ وجوب القراءة في كلّ ركعة هي الرِّواية الصحيحة عن أبي حنيفة .
وأمّا مالك فقد ذهب إلى كراهة قراءتها في نفسها ،واستحبابها لأجل الخروج من الخلاف » .
وقد نلاحظ في هذه المسألة ،أنَّ المشكلة المطروحة التي تخضع لها النتيجة الحاسمة ،هي مشكلة القراءة في الصلاة ،فإذا كانت جزءاً من الفاتحة ،أو من أية سورة ،وجبت قراءتها ،وإذا لم تكن كذلك فلا يجب قراءتها إلاّ بدليل خاصّ ،لأنَّ السورة لا تنقص بتركها .
أمّا طبيعة المسألة ،فلا تمثّل مشكلةً عمليةً ،لأنَّ سيرة المسلمين جاريةٌ على قراءة البسملة مع كلّ سورةٍ ،كما أنّ المصاحف بأكملها مشتملةٌ عليها ،حتى أنَّ المثبتين للجزئية جعلوا ذلك دليلاً عليها ،ما يجعل للمسألة موقعاً فقهياً كبقية المسائل الفقهية العملية ،ولذلك اكتفينا بالإشارة إلى الخلاف في المسألة وتركنا الاستدلال عليها للأبحاث الفقهية .