)الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) ( البقرة:194 )
التفسير:
قوله تعالى:{الشهر الحرام بالشهر الحرام}: الجملة مبتدأ ،وخبر ؛ومعناها: إذا قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم فيه ؛وهذا في انتهاك الزمن ؛وقوله تعالى فيما سبق:{ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم} [ البقرة: 191] في انتهاك المكان .
قوله تعالى:{والحرمات قصاص}؛{الحرمات} جمع حُرُم ؛والمراد ب«الحرم » كل ما يحترم من زمان ،أو مكان ،أو منافع ،أو أعيان ؛لأن «حُرُم » جمع حرام ؛و«حرمات » جمع حُرُم ؛فالمعنى: أن المحترم يقتص منه بمحترم آخر ؛ومعنى ذلك أن من انتهك حرمة شيء فإنه تنتهك حرمته: فمن انتهك حرمة الشهر انتهكت حرمته في هذا الشهر ؛ومن انتهك عِرض مؤمن انتهك عِرض مثله ؛ومن انتهك نفس مؤمن فقتله انتهكت حرمة نفسه بقتله ؛وهكذا .
وكل هذا التأكيد من الله عز وجل في هذه الآيات من أجل تسلية المؤمنين ؛لأن المؤمنين لا شك أنهم يحترمون الأشهر الحرم والقتال فيها ؛ولكن الله تعالى سلاهم بذلك بأن الحرمات قصاص ؛فكما أنهم انتهكوا ما يجب احترامه بالنسبة لكم فإن لكم أن تنتهكوا ما يجب احترامه بالنسبة إليهم ؛ولهذا قال تعالى مفرعاً على ذلك:{فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} .
قوله تعالى:{فمن اعتدى عليكم} أي من تجاوز الحد في معاملتكم سواء كان ذلك بأخذ المال ،أو بقتل النفس ،أو بالعرض ،أو بما دون ذلك ،أو أكثر فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم .
وقوله تعالى هنا:{فاعتدوا عليه}: ليس أخذنا بالقصاص اعتداء ؛ولكنه سمي اعتداءً ؛لأنه مسبَّب عن الاعتداء ؛فكأنه يقول: أنتم إذا اعتدى عليكم أحد فخذوا حقكم منه ؛ثم فيه نكتة أخرى أن العادي يرى نفسه في مقام أعز من المعتدى عليه ،وأرفع منه ؛ولو كان يرى نفسه في مكان دونه لم يعتدِ ؛فكأنه يقول: إن قصاصكم يعتبر أيضاً عزاً لكم ؛كما أنه هو طغى واعتدى ،فأنتم الآن يعتبر قصاصكم بمنزلة المرتبة العليا بالنسبة إليهم ؛وإن شئت فقل: أطلق على المجازاة اعتداءً من باب المشاكلة اللفظية .
قوله تعالى:{بمثل ما اعتدى عليكم}: ادعى بعضهم أن الباء هنا زائدة ،وقال: إن التقدير: فاعتدوا عليه مثل ما اعتدى عليكم ؛على أن تكون «مثل » هنا مفعولاً مطلقاًأي عدواناً ،أو اعتداءً مثل اعتدائه؛ولكن الصواب أنها ليست زائدة ،وأنّها أصلية ؛وأن المعنى: اعتدوا عليه بمثله ؛فالباء للبدل ؛بحيث يكون المثل مطابقاً لما اعتدى عليكم به في هيئته ،وفي كيفيته ،وفي زمنه ،وفي مكانه ؛فإذا اعتدى عليكم أحد بقتال في الحرم فاقتلوه ؛وإذا اعتدى عليكم أحد بقتال في الأشهر الحرم فقاتلوه ؛فتكون الباء هنا دالة على المقابلة ،والعوض .
قوله تعالى: [ واتقوا الله} أي اتخذوا وقاية من عذابه بفعل أوامره ،واجتناب نواهيه ؛وفي هذا المقام اتقوا الله فلا تتعدَّوا ما يجب لكم من القصاص ؛لأن الإنسان إذا ظُلِم فإنه قد يتجاوز ،ويتعدى عند القصاص .
قوله تعالى:{واعلموا أن الله مع المتقين}؛أمر بالعلم بأن الله مع المتقين ؛وهو أوكد من مجرد الخبر ؛والمراد به العلم مع الاعتقاد .
وقوله تعالى:{مع المتقين} أي المتخذين وقاية من عذاب الله بفعل أوامره ،واجتناب نواهيه .
الفوائد:
1من فوائد الآية: تسلية الله عز وجل للمسلمين بأنهم إذا فاتهم قضاء عمرتهم في الشهر الحرام فيمكنهم أن يقضوها في الشهر الحرام من السنة الثانية ،كما حصل في الحديبية .
2ومنها: أن الحرمات قصاص ؛يعني أن من انتهك حرمتك لك أن تنتهك حرمته مثلاً بمثل ؛ولهذا فرع عليها قوله تعالى:{فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} .
3ومنها: أن المعتدي لا يجازى بأكثر من عدوانه ؛لقوله تعالى:{بمثل ما اعتدى عليكم}؛فلا يقول الإنسان: أنا أريد أن أعتدي بأكثر للتشفي ؛ومن ثم قال العلماء: «إنه لا يقتص من الجاني إلا بحضرة السلطان ،أو نائبه » خوفاً من الاعتداء ؛لأن الإنسان يريد أن يتشفى لنفسه ،فربما يعتدي بأكثر .
4ومنها: وجوب تقوى الله عز وجل في معاملة الآخرين ؛بل في كل حال ؛لقوله تعالى:{واتقوا الله} .
5ومنها: إثبات أن الله مع المتقين ؛لقوله تعالى:{واعلموا أن الله مع المتقين}؛والمعية تنقسم إلى قسمين: عامة ،وخاصة ؛فالعامة هي الشاملة للخلق كلهم ،وتقتضي الإحاطة بهم علماً ،وقدرة ،وسلطاناً ،وسمعاً ،وبصراً ،وغير ذلك من معاني الربوبية ؛لقوله تعالى:{ألم تعلم أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا} [ المجادلة: 7]؛وأما الخاصة فهي المقيدة بوصف ،أو بشخص ؛مثال المقيدة بوصف قوله تعالى:{إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [ النحل: 128]؛ومثال المقيدة بشخص قوله تعالى لموسى وهارون:{إنني معكما أسمع وأرى} [ طه: 46] ،وقوله تعالى فيما ذكره عن نبيه ( ص ):{إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [ التوبة: 40] .
تنبيه:
اعلم أن ما أثبته الله لنفسه من المعية لا ينافي ما ذَكر عن نفسه من العلو لأنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء ،ولا يقاس بخلقه ؛فمعيته ثابتة مع علوه تبارك وتعالى ؛وإذا كان العلو ،والمعية لا يتناقضان في حق المخلوقفإنهم يقولون: «ما زلنا نسير والقمر معنا » ،ولا يعدون ذلك تناقضاً مع أن القمر في السماءفثبوت ذلك في حق الخالق من باب أولى؛وبهذا يبطل قول من زعم أن معية الله تستلزم أن يكون في الأرض مختلطاً بالخلق ؛فإن هذا قول باطل باتفاق السلف المستنِد على الكتاب ،والسنة في إثبات علو الله فوق خلقه ؛وتفصيل القول في هذا مدوَّن في كتب العقائد .
6ومن فوائد الآية: تأكيد هذه المعية ؛ولهذا قال تعالى:{واعلموا}؛ولم يقتصر على مجرد أن يخبر بها ؛بل أمرنا أن نعلم بذلك ؛وهذا أمر فوق مجرد الإخبار .
7ومنها: بيان إحاطة الله عز وجل بالخلق ،وتأييده بالمتقين الذين يقومون بتقواه ؛ووجه ذلك: أنه من المعلوم بالكتاب ،والسنة ،والعقل ،والفطرة أن الله فوق جميع الخلق ؛ومع ذلك أثبت أنه مع الخلق .
8ومنها: فضيلة التقوى ،حيث ينال العبد بها معية الله ؛فإنه من المعلوم إذا كان الله معك ينصرك ،ويؤيدك ،ويثبتك فهذا يدل على فضيلة السبب الذي هو التقوى ؛لقوله تعالى:{واعلموا أن الله مع المتقين} .