)وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( البقرة:228 )
التفسير:
قوله تعالى:{والمطلقات} أي اللاتي طلقهن أزواجهن ؛{يتربصن بأنفسهن} أي ينتظرن في العدة ،ويَحبسن أنفسهن عن الزواج ؛لأن المرأة بطبيعتها تطلب النكاح ؛فقيل لها: تربصي بنفسك ؛انتظري ،مثلما أقول: ارفق بنفسك - أي هوِّن على نفسك - ؛وما أشبهها ؛وأما قول من قال: إن «أنفسهن » توكيد للفاعل في{يتربصن} زيدت فيه الباء ،وجعل معنى الآية: يتربصن أنفسُهن ؛فهذا ليس بصحيح ؛لأن الأصل عدم الزيادة ؛ولأن مثل هذا التعبير شاذ في اللغة العربية ؛فلا يحمل كلام الله على الشاذ ؛وعلى هذا فالمعنى الصحيح: أن ينتظرن بأنفسهن فلا يعجلن .
قوله تعالى:{ثلاثة قروء} جمع قَرْء بفتح القاف ؛وهو الحيض على أرجح القولين ؛وهو رأي الجمهور ؛لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المستحاضة: «تجلس أيام أقرائها »{[392]} أي حيضها ؛فقوله تعالى:{ثلاثة قروء} أي ثلاث حيض .
قوله تعالى:{ولا يحل لهن أن يكتمن} أي يخفين{ما خلق الله في أرحامهن} أي من الحمل ؛فلا يحل لها أن تكتم الحمل ؛و{أرحامهن} جمع رحم ؛وهو مقر الحمل ؛وسمي رحماً ؛لأنه ينضم على الجنين ،ويحفظه ؛فهو كذوي الأرحام من انضمامهم على قريبهم ،وحنوهم عليه ،وعطفهم عليه .
قوله تعالى:{إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر} هذه الجملة فيها إغراء لالتزام الحكم السابق ؛وهي تشبه التحدي ؛يعني إن كن صادقات في الإيمان بالله ،واليوم الآخر فلا يكتمن حملهن ؛والمراد ب{اليوم الآخر} يوم القيامة ؛وإنما سمي اليوم الآخر ؛لأنه لا يوم بعده ؛فالناس إذا بعثوا يوم القيامة فليس هناك موت ؛بل إما خلود في الجنة ؛وإما خلود في النار ؛وذكر اليوم الآخر ؛لأن الإيمان به يحمل الإنسان على فعل الطاعات ،واجتناب المنهيات ؛لأنه يعلم أن أمامه يوماً يجازى فيه الإنسان على عمله ؛فتجده يحرص على فعل المأمور ،وترك المحظور .
قوله تعالى:{وبعولتهن أحق بردهن في ذلك}؛البعل هو الزوج ،كما قال الله تعالى عن امرأة إبراهيم:{قال يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً} [ هود: 72] أي زوجي ؛وسمي بعلاً مع أنه مطلِّق ؛لأن الأحكام الزوجية في الرجعية باقية إلا ما استثني ؛و{أحق} اسم تفضيل ؛واسم التفضيل لا بد فيه من مفضل ،ومفضل عليه ؛يعني: أن بعولتهن أحق بردهن من أنفسهن ؛و «ذا » اسم إشارة ؛والمشار إليه التربص المفهوم من قوله تعالى:{يتربصن} - وهو مدة العدة - .
قوله تعالى:{إن أرادوا إصلاحاً} أي إن أراد بعولتهن إصلاحاً في ردهن ؛و{إصلاحاً} أي ائتلافاً ،والتئاماً بين الزوج ،وزوجته ،وإزالة لما وقع من الكسر بسبب الطلاق ،وما أشبه ذلك .
قوله تعالى:{ولهن} أي للزوجات سواء كن مطلقات ،أو ممسكات{مثل الذي عليهن بالمعروف}: فكما أن على الزوجة أن تتقي الله تعالى في حقوق زوجها ،وأن تقوم بما فرض الله عليها ؛فلها أيضاً مثل الذي له في أنه يجب على الزوج أن يعاشرها بالمعروف ،وأن يقوم بحقها الذي أوجب الله عليه .
ولما كانت المماثلة تقتضي المساواة أخرج ذلك بقوله تعالى:{وللرجال عليهن درجة} أي فضل في العقل ،والحقوق ؛وهذا من باب الاحتراس حتى لا يذهب الذهن إلى تساوي المرأة ،والرجل من كل وجه .
قوله تعالى:{والله عزيز} أي ذو عزة ؛وأظهر معانيها: الغلبة ،كقوله تعالى:{وعزني في الخطاب} [ ص: 23]؛و{حكيم} أي ذو الحكم التام ،والحكمة البالغة .
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: وجوب اعتداد المطلقة بثلاث حيض ؛لقوله تعالى:{والمطلقات يتربصن}؛وهي جملة خبرية بمعنى الأمر ؛قال البلاغيون: إذا جاء الأمر بصيغة الخبر كان ذلك توكيداً له ؛كأنه أمر واقع صح أن يخبر عنه .
2 - ومنها: قوة الداعي في المرأة للزواج ؛لقوله تعالى:{يتربصن بأنفسهن}؛فكأن النفس تحثها على أن تنهي علاقتها بالأول ،وتتزوج ؛فقيل: «تربصي بنفسك » أي انتظري ؛مثل أن تقول: تربصتُ بكذا ،وكذا ،وكذا .
3 - ومنها: وجوب العدة بثلاث حيض على كل مطلقة سواء كان طلاقها بائناً أم لا ؛لعموم قوله تعالى:{والمطلقات} .
ويستثنى من ذلك: من لا تحيض لصغر ،أو إياس: فعدتها ثلاثة أشهر ؛لقوله تعالى:{واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} [ الطلاق: 4] .
ويستثنى أيضاً من طلقت قبل الدخول ،والخلوة: فليس عليها عدة ؛لقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [ الأحزاب: 49] .
ويستثنى أيضاً الحامل ؛فعدتها إلى وضع الحمل ؛لقوله تعالى:{وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [ الطلاق: 4] .
فهذه ثلاث مسائل مستثناة من عموم قوله تعالى:{والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} .
4 - ومن فوائد الآية: أن من فارق الزوجة بغير طلاق فليس عليها أن تعتد بثلاث حيض ،كالمختلعة ؛وعليه فيكفي أن تستبرئ بحيضة ؛وهذا هو القول الراجح .
5 - ومنها: أنه لو طلقها في أثناء الحيض لم يحتسب بالحيضة التي وقع فيها الطلاق ؛وجهه: أن الحيض لا يتبعض ؛فتلغى بقية الحيضة التي وقع فيها الطلاق ؛ولا بد لها من ثلاث حيض جديدة ؛وإلا يلزم على ذلك أن تكون عدتها ثلاثة قروء وبعض القرء ؛وهو خلاف النص ؛وهذا على القول بأن طلاق الحائض واقع ؛ولكن الصواب أن طلاق الحائض لا يقع ؛لحديث ابن عمر{[393]} ؛ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد »{[394]} ؛ولنصوص أخرى دلت على عدم وقوع طلاق الحائض .
6 - ومن فوائد الآية: أن الطلاق لا يقع قبل النكاح منجزاً كان ،أو معلقاً ؛معيناً كان ،أو مطلقاً ؛فلو قال لامرأة: «إن تزوجتك فأنت طالق » فتزوجها لم تطلق ؛لقوله تعالى:{والمطلقات}؛ولا طلاق إلا بعد قيد - وهو عقد النكاح - .
7 - ومنها: أنه يرجع إلى قول المرأة في عدتها ؛لقوله تعالى:{ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن}؛وجه ذلك أن الله جعل قولها معتبراً ؛ولو لم يكن معتبراً لم يكن لكتمها أيّ تأثير ؛فإذا ادعت أن عدتها انقضت ،وكان ذلك في زمن ممكن فإنها تصدق ؛وهي مؤتمنة على ذلك ؛أما إذا ادعت أن عدتها انقضت في زمن لا يمكن فإن قولها مردود ؛لأن من شروط سماع الدعوى أن تكون ممكنة ؛ودعوى المستحيل غير مسموعة أصلاً .
8 - ومن فوائد الآية: أن المطلقة البائن عدتها ثلاثة قروء ؛لعموم قوله تعالى:{والمطلقات}؛فيشمل حتى البوائن ؛وهو قول جمهور العلماء ؛حتى لو كانت بائناً بالثلاث ؛فإنها لا بد أن تعتدّ بثلاثة قروء ؛وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -: إن كانت المسألة إجماعية فالإجماع معتبر ،وهو حجة ؛وإن لم تكن إجماعية فإن القول بأن المبانة تعتد بحيضة واحدة قول وجيه ؛فعلق القول به على وجود مخالف ؛وقد وجد ؛ويؤيد هذا القول قوله تعالى:{وبعولتهن أحق بردهن في ذلك}؛فإن هذا الحكم إنما هو للرجعيات ؛فيكون العموم مخصصاً بذكر الحكم المختص ببعض أفراده ؛وهذه المسألة فيها نزاع بين العلماء - وهي أنه إذا ورد لفظ عام ،ثم فرع عليه حكم يتعلق ببعض أفراده فهل يكون ذلك مخصصاً لعمومه - ؛أو يقال: إن ذكر حكم يختص ببعض الأفراد لا يقتضي التخصيص ؛ومن أمثلته حديث جابر: «قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة »{[395]} ؛إذا نظرنا إلى أول الحديث: «في كل ما يقسم » وجدنا أن الشفعة تجري في كل شيء ؛وإذا نظرنا إلى آخره: «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق » ،قلنا: إن الشفعة لا تجري إلا فيما كان له حدود ،وطرق - وهو الأرض - .
و«الشفعة » أن ينتزع الشريك حصة شريكه التي باعها لطرف ثالث ؛مثال ذلك: زيد شريك لعمرو في أرض ؛فباع عمرو نصيبه لخالد ؛فلزيد أن يأخذ هذا النصيب من خالد بالثمن الذي يستقر عليه العقد ؛فإذا كان لشخصين سيارة واحدة ،وباع أحدهما نصيبه من هذه السيارة لشخص ثالث فللشريك أن يأخذ هذا النصيب ممن اشتراه بثمنه على مقتضى أول الحديث العام ؛لكن قوله تعالى: «فإذا وقعت الحدود ،وصرفت الطرق » يقتضي أن لا شفعة له في نصيب شريكه في السيارة ؛لأنه لا حدود ،ولا طرق فيها ؛والمسألة ذات خلاف معروف في كتب الفقه .
9 - ومن فوائد الآية: أنه ينبغي ذكر ما يوجب القبول ،والعمل ؛لقوله تعالى:{إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر} .
10 - ومنها: أنه ينبغي تحذير المؤتمن الذي لا يعلم بأمانته إلا الله عزّ وجلّ من عذاب يوم الآخر إن هو لم يقم بواجب الأمانة ؛لقوله تعالى:{ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر} .
11 - ومنها: إثبات اليوم الآخر .
12 - ومنها: أن الرجعية في حكم الزوجات ؛لقوله تعالى:{وبعولتهن أحق}؛فأثبت أنه بعل .
فإن قال قائل: ألا يمكن أن يقال:{بعولتهن} فيما مضى ؛لأن الشيء قد يعبر عنه بعد انتهائه ،كقوله تعالى:{وآتوا اليتامى أموالهم} [ النساء: 2]؛وهم لا يؤتونها إلا بعد زوال اليتم ؛كما أنه قد يعبر عن الشيء قبل وجوده ،كقوله تعالى:{إني أراني أعصر خمراً} [ يوسف: 36]؛وهو إنما يعصر عنباً ليكون خمراً ؟
فالجواب: أن الأصل خلاف ذلك ؛ولا يصار إلى خلاف الأصل إلا بدليل ؛لأن الأصل أن الوصف متحقق في الموصوف حتى يتبين زوال الوصف عنه ؛ولهذا قال أهل العلم: إن الرجعية زوجة في حكم الزوجات ؛وينبني على ذلك أن كل ما يترتب على الزوجية فهو ثابت للرجعية إلا أنهم استثنوا بعض المسائل .
13 - ومن فوائد الآية: أنه لا حق للزوج في الرجعة إذا لم يرد الإصلاح ؛لقوله تعالى:{إن أرادوا إصلاحاً} ؛وقال بعض أهل العلم: «إن هذا ليس على سبيل الشرط ؛ولكنه على سبيل الإرشاد » ؛وهو خلاف ظاهر الآية ؛والواجب إبقاء الآية على ظاهرها ؛فليس له أن يراجع إلا بهذا الشرط .
14 - ومنها: أنه لا رجعة بعد انقضاء العدة ؛لقوله تعالى:{أحق بردهن في ذلك} .
15 - ومنها: أن للزوجة حقاً كما أن عليها حقاً ؛لقوله تعالى:{ولهن مثل الذي عليهن} .
16 - ومنها: إثبات الرجوع إلى العرف ؛لقوله تعالى:{بالمعروف}؛وهكذا كل ما جاء ،ولم يحدد بالشرع فإن مرجعه إلى العرف .
17 - ومنها: استعمال الاحتراس ؛وأنه لا ينبغي الإطلاق في موضع يخشى فيه من التعميم ؛لقوله تعالى:{وللرجال عليهن درجة} أي حقوق الرجال أكثر من حقوق النساء ؛ولهذا كان على الزوجة أن تطيع زوجها ؛وليس على الزوج أن يطيع زوجته ؛لقوله تعالى:{فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً} [ النساء: 34]؛وهذا من معنى الدرجة ؛ودرجة الرجال على النساء من وجوه متعددة ؛فالدرجة التي فضل بها الرجال على النساء في العقل ،والجسم ،والدين ،والولاية ،والإنفاق ،والميراث ،وعطية الأولاد .
الأمر الأول: العقل؛فالرجل عقله أكمل من عقل المرأة ؛وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكن ؛قلن: ما نقصان العقل يا رسول الله ؟قال: أليس شهادة الرجل بشهادة امرأتين ؟فذلك نقصان عقلها »{[396]} .
الأمر الثاني: الجسم؛فإن الرجل أكمل من المرأة في الجسم ؛فهو أنشط من المرأة ،وأقوى في الجسم .
الأمر الثالث: الدين؛فإن الرجل أكمل من المرأة في الدين ؛لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في المرأة: «إنها ناقصة في الدين »؛وفَسر ذلك بأنها إذا حاضت لم تصلّ ،ولم تصم؛ولهذا يجب على الرجل من الواجبات الدينية ما لا يجب على المرأة ،كالجهاد مثلاً .
الأمر الرابع: الولاية؛فقد فضل الرجل على المرأة في الولاية ؛فإن الله سبحانه وتعالى جعل الرجل قواماً على المرأة ؛فالرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض ؛ولهذا لا يحل أن تتولى المرأة ولاية عامة أبداً - لا وزارة ،ولا غير وزارة - ؛فالولاية العامة ليست من حقوق النساء أبداً ،ولا يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة .
الأمر الخامس: الإنفاق؛فالزوج هو الذي ينفق على المرأة ؛وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اليد العليا خير من اليد السفلى »{[397]} ؛و «اليد العليا »: هي المعطية ؛و «السفلى »: الآخذة .
الأمر السادس: الميراث ،وعطية الأولاد؛فإن للذكر مثل حظ الأنثيين .
18 - ومن فوائد الآية: أن الذين لهم درجة على النساء هم الرجال الذين هم جديرون بهذا الوصف ؛وأما من جعل نفسه بمنزلة النسوة فهذا يكون شراً من المرأة ؛لأنه انتكس من الكمال إلى الدون ؛ومن ثم لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء ؛والمتشبهات من النساء بالرجال{[398]} ؛حتى لا يعتدي أحد على حق ؛أو على اختصاصات أحد .
19 - ومنها: إثبات هذين الاسمين من أسماء الله: «العزيز » ،و «الحكيم »؛وما تضمناه من صفة - وهي العزة في «العزيز » - ؛والحكمة ،والحكم في «الحكيم »؛وما يترتب على ذلك من أثر .