)وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) ( البقرة:283 )
التفسير:
قوله تعالى:{وإن كنتم على سفر} أي مسافرين ؛وذلك كقوله تعالى في آية الصيام:{ومن كان مريضاً أو على سفر} [ البقرة: 185]؛وأتى بكلمة:{على} لتحقق هذا الأمر - وهو السفر ؛لأن{على} تدل على الاستعلاء ؛فكأنه متمكن من السفر ،كالراكب على الراحلة ؛و «السفر » مفارقة الوطن ؛وبعضهم قال: مفارقة محل الإقامة ؛لأن الإنسان قد لا يستوطن ؛ولكن يقيم دائماً ؛والمفارقة قد تكون طويلة - ويسمى سفراً طويلاً ؛وقد تكون قصيرة - ويسمى سفراً قصيراً .
قوله تعالى:{ولم تجدوا كاتباً} أي يكتب بينكم ؛وهذا كما سبق يحتاج إليه فيما إذا تداينا بدين إلى أجل مسمى ؛فيكون المعنى: إن كنتم على سفر ،وتداينتم بدَين إلى أجل مسمى ولم تجدوا كاتباً{فرهان مقبوضة} .
قوله تعالى:{فرهان مقبوضة} فيها قراءاتان ؛لقراءة الأولى:{فرِهان} بكسر الراء ،ومدّ الهاء ؛والثانية:{فرُهُن} بضم الراء ،والهاء بدون مدّ ؛ولهذا تكتب بالألف في خط المصحف لكي تصلح للقراءتين ؛ومعنى{فرهان} أي فعليكم رهن ؛أو فالوثيقة رهن - أو رهان ؛وعلى هذا فتكون إما مبتدأ خبره محذوف ؛وإما خبر مبتدأ محذوف ؛والجملة في محل جزم على أنها جواب الشرط ؛وقرنت بالفاء ؛لأنها جملة اسمية ؛وإذا كان جواب الشرط جملة اسمية فإنه يقترن بالفاء وجوباً ؛ولا تحذف إلا شذوذاً ،أو اضطراراً ؛ومن حذفها قول الشاعر:
من يفعل الحسنات الله يشكرها ........ولم يقل: فالله يشكرها ؛ولكن هذا على سبيل الضرورة ،أو الندرة ،والشذوذ .
و «الرهان » جمع رهْن ؛و«الرهن » في اللغة الحبس ؛ومنه قوله تعالى:{كل نفس بما كسبت رهينة} [ المدثر: 38] أي محبوسة بما عملت ؛ولكنه في اصطلاح الفقهاء: توثقة دَين بعين يمكن استيفاؤه ،أو بعضِهِ منها ،أو من بعضها ،مثل ذلك: زيد مدين لعمرو بعشرة آلاف ريال ،فأرهنه سيارة تساوي عشرين ألف ريال ؛هنا يمكن استيفاء الدَّين من بعضه ؛لأن الرهن أكثر من الدَّين ؛مثال آخر: زيد مدين لعمرو بعشرين ألف ريال ؛فأرهنه سيارة تساوي عشرة آلاف ريال ؛فهنا يمكن استيفاء بعضه منها ؛لأن الدَّين أكثر من الرهن ؛فإذا كان الدَّين مساوياً للرهن ،كما لو كان دينه عشرة آلاف ريال ؛فأرهنه سيارة تساوي عشرة آلاف ريال ؛فهنا يمكن استيفاء الدَّين كله من كل الرهن .
وقوله تعالى:{مقبوضة} أي يقبضها من يتوثق بها - وهو الطالب - من المطلوب الذي هو الراهن ؛والطالب الذي قبض الرهن يسمى مرتهناً ؛فهنا راهن ،ومرتهن ،ورهن ،ومرهون به ؛فالرهن: العين ؛والراهن: معطي الرهن ؛والمرتهن ؛آخذ الرهن ؛والمرهون به: الدين ؛فأركان الرهن أربعة .
ولم يبين سبحانه وتعالى كيف القبض ؛فيرجع في ذلك إلى العرف ؛ومعناه: أن يكون الشيء في قبضة الإنسان ،وتحت سيطرته .
قوله تعالى:{فإن أمن بعضكم بعضاً} أي اتخذه أميناً ؛بمعنى أنه وثق منه أن لا ينكر ،ولا يبخس ،ولا يغير ؛والجملة شرطية جوابها قوله تعالى:{فليؤد الذي اؤتمن أمانته}؛والفاء في{فليؤد} رابطة لجواب الشرط ؛وهو قوله تعالى:{إن أمن ...}؛وجاءت الفاء رابطة مع أن جواب الشرط فعل مضارع ؛لأنه مقترن بلام الأمر الدالة على الطلب ؛ومتى كانت الجملة الجزائية طلبية وجب اقترانها بالفاء ؛واللام هنا جاءت ساكنة لوقوعها بعد الفاء ؛ولام الأمر تقع ساكنة إذا وقعت بعد الفاء ،أو الواو ،أو «ثم » ؛بخلاف لام التعليل فإنها تكون مكسورة على كل حال ؛و{اؤتمن} فعل ماض مبني لما لم يسم فاعله ؛و{أمانته} أي ما ائتمن عليه .
قوله تعالى:{وليتق الله ربه}؛«يتق » مجزومة بحذف حرف العلة - وهو الياء ؛والكسرة دليل عليها - وهنا أردف الاسم الأعظم:{الله} بقوله تعالى:{ربه} تحذيراً من المخالفة ؛لأن «الرب » هو الخالق المالك المدبر ؛فاخشَ هذا الرب الذي هو إلهك أن تخالف تقواه .
قوله تعالى:{ولا تكتموا الشهادة}؛{لا} ناهية ؛و «الكتمان » الإخفاء ؛و «الشهادة » ما شهد به الإنسان ؛أي لا تخفوا ما شهدتم به لا في أصله ،ولا في وصفه ؛في أصله بأن ينكر الشهادة رأساً ؛وفي وصفه بأن يزيد فيها ،أو ينقص .
قوله تعالى:{ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} أي من يخفيها أصلاً ،أو وصفاً ،فقد وقع قلبه في الإثم ؛وإنما أضاف الإثم إلى القلب ؛لأن الشهادة أمر خفيّ ؛فالإنسان قد يكتمها ،ولا يُعْلَم بها ؛فالأمر هنا راجع إلى القلب ؛ولأن القلب عليه مدار الصلاح ،كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت الجسد كله ؛وإذا فسدت فسد الجسد كله ؛ألا وهي القلب »{[551]} .
قوله تعالى:{والله بما تعملون عليم}؛«ما » هذه موصولة تفيد العموم ،وتشمل كل ما يعمله الإنسان من خير أو شر في القلب ،أو في الجوارح ؛وقَدّم{بما تعملون} على متعلّقها لقوة التحذير ،وشدته ؛فكأنه حصر علمه فيما نعمل ؛فيكون هذا أشد في بيان إحاطته بما نعمل ؛فيتضمن قوة التحذير ؛وليس مقتضاه حصر العلم على ما نعمل فقط .
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أنه إذا لم يجد كاتباً في السفر فإنه يوثق الحق بالرهن المقبوض .
2 - ومنها: عناية الله عز وجل بحفظ أموال عباده ؛يعني أنه سبحانه وتعالى ذكر حتى هذه الصورة: أن الإنسان إذا داين غيره ،ولم يجد كاتباً فإنه يرتهن رهناً حفظاً لماله ،وخوفاً من النزاع ،والشقاق في المستقبل .
3 - ومنها: جواز الرهن ؛لقوله تعالى:{فرهان}؛ولكن ذلك مشروط - حسبما في الآية - بالسفر سواء كان قصيراً ،أو طويلًا ؛وبألا نجد كاتباً ؛فهل هذا الشرط معتبر ؟الجواب: دلت السنة على عدم اعتباره: فقد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين صاعاً من الشعير لأهله ،ورهن درعه عند يهودي حتى مات{[552]} ؛وهذا يدل على جواز الرهن في الحضر حتى مع وجود الكاتب .
فإذا قال قائل: إذا كان الأمر هكذا فما الجواب عن الآية ؟فالجواب عن الآية أن الله عز وجل ذكر صورة إذا تعذر فيها الكاتب فإن صاحب الحق يتوثق لحقه بالرهن المقبوض ؛فذكر هذه الصورة لا على أنها شرط للحكم ؛يعني كأنه قال: إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ؛وإن كنتم في السفر ،وليس عندكم كاتب فرهان مقبوضة .
4 - ومن فوائد الآية: أن بعض العلماء استدل بهذه الآية على لزوم القبض في الرهن ؛وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن قبض الرهن شرط لصحته ؛لأن الله جعل القبض وصفاً في الرهن ؛والوصف لازم للموصوف .
والقول الثاني: أن القبض شرط للزوم الرهن - لا لصحته ؛وعلى هذا القول يكون الرهن صحيحاً - وإن لم يُقبَض - لكنه ليس بلازم ؛فللراهن أن يتصرف فيه بما شاء .
والقول الثالث: أن القبض - أعني قبض الرهن - ليس بشرط لا للصحة ،ولا للزوم ؛وإنما ذكر الله القبض في هذه الحال ؛لأن التوثق التام لا يحصل إلا به لكون المتعاقدين في سفر ؛وليس ثمة كاتب ،فلا يحصل تمام التوثقة بالرهن إلا بقبضه ؛وهذا القول هو الراجح ؛وعليه فالرهن لازم صحيح بمجرد عقده - وإن لم يقبض ؛لقول الله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [ المائدة: 1] ،وقوله تعالى:{وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً} [ الإسراء: 34]؛وعلى هذا القول عمل الناس: فترى الرجل يكون راهناً بيته وهو ساكن فيه ،أو راهناً سيارته وهو يستعملها ؛ولا تستقيم حال الناس إلا بذلك .
5 - ومن فوائد الآية: أنه إذا حصل الائتمان من بعضنا لبعض لم يجب رهن ،ولا إشهاد ،ولا كتابة ؛لقوله تعالى:{فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته}؛ولهذ قال كثير من العلماء: إن هذه ناسخة لما سبق في قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [ البقرة: 282] ،وقوله تعالى:{وأشهدوا إذا تبايعتم} [ البقرة: 282] ،وقوله تعالى:{وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة}؛والصحيح أنها ليست ناسخة ؛بل مخصِّصة لما سبق .
6 - ومنها: وجوب أداء الأمانة على من اؤتمن ؛لقوله تعالى:{فليؤد الذي اؤتمن أمانته}؛فإذا وجب أداء الأمانة حرمت الخيانة .
7 - ومنها: أنه لو تلفت العين بيد الأمين فإنه لا ضمان عليه ما لم يتعد ،أو يفرط ؛لقوله تعالى:{فليؤد الذي اؤتمن أمانته}؛فسماها الله سبحانه وتعالى أمانة ؛والأمين يده غير متعدية ؛فلا يضمن إلا إذا حصل تعدٍّ ،أو تفريط ؛ومن التعدي إذا أعطي الإنسانُ أمانة للحفظ تصرف فيها - كما يفعل بعض الناس - ببيع ،أو شراء ،أو نحو ذلك ؛وهذا حرام لا يجوز ؛وإذا أردت أن تفعل فاستأذِن من صاحبها ؛فإن أذن لك صارت عندك قرضاً .
8 - ومن فوائد الآية: أنه يجب على هذا الذي اؤتمن ألا يغتر بثقة الناس به ،فيفرط فيما يجب عليه من أداء الأمانة ؛لقوله تعالى:{وليتق الله ربه}؛فأمره الله سبحانه وتعالى بأن يتقي الله: قال تعالى:{وليتق الله} ،وأردفها بقوله تعالى:{ربه}؛ففيه فائدة - وهي أن الإنسان في هذه المقامات ينظر إلى مقام الربوبية كما ينظر إلى مقام الألوهية ؛فبنظره إلى مقام الألوهية يفعل هذا تعبداً لله سبحانه وتعالى ،وتقرباً له ؛وبنظره إلى مقام الربوبية يحذر المخالفة ؛لأن الرب هو الذي له الخلق ،والملك ،والتدبير ؛فلا بد أن يقرن الإنسان بين مقام الألوهية ،ومقام الربوبية .
9 - ومن فوائد الآية: إثبات ما دلّ عليه هذان الاسمان ؛وهما «الله » ،و «الرب »؛فالأول فيه إثبات الألوهية ؛والثاني فيه إثبات الربوبية ؛لأن المعبود لابد أن يكون أهلاً للعبادة ؛والرب لابد أن يكون أهلاً للربوبية ؛ولا يتحقق ذلك إلا بكمال الصفات ؛ولهذا نقول: توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية ؛والتوحيدان يستلزمان كمال الأسماء ،والصفات ؛ولهذا قال إبراهيم ( ص ) لأبيه:{يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً} [ مريم: 42] .
10 - ومن فوائد الآية تحريم كتمان الشهادة ؛يعني إخفاءها سواء كان كتمان أصلها ،أو وصفها ؛وسواء كان الحامل لها القرابة ،والغنى ؛أو البعد ،والفقر ؛لقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما ...} [ النساء: 135] الآية .
11 - ومنها: أن كتْم الشهادة من الكبائر ؛لوجود العقوبة الخاصة بها - وهي قوله تعالى:{فإنه آثم قلبه} .
12 - ومنها: عظم كتم الشهادة ؛لأنه أضاف الإثم فيها إلى القلب ؛وإذا أثم القلب أثمت الجوارح ؛لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله »{[553]} ؛وقوله ( ص ): «التقوى هاهنا »{[554]} وأشار إلى صدره ؛فالتقوى في القلب ،وليست في اللسان ،ولا في الأفعال ،ولا في الأحوال ؛فقد يكون الإنسان متقياً بفعله متقياً بقوله غير متقٍ بقلبه: تجده بفعله يتزيّ بزي المسلم الخالص - من إعفاء اللحية ،والوقار ،والسكينة ،وكذلك يقول قول المسلم الخالص: «أستغفر الله » ،«اللهم اغفر لي » ،ويذكر الله ،ويكبر ؛هذه لا شك تقوى في الظاهر ؛والغالب أنها دليل على تقوى الباطن .
13 - ومن فوائد الآية: عموم علم الله سبحانه وتعالى بكل ما نعمل ؛لقوله تعالى:{بما تعملون عليم}؛فإن{ما} اسم موصول ؛والاسم الموصول يفيد العموم ،فيشمل كل ما نعمل من أعمال القلب ،وأعمال الجوارح .
إذا قال قائل: ما فائدة التقديم هنا - إن قيل: لمراعاة الفواصل قلنا: فالنون تأتي في الفواصل كثيراً ،مثل قوله تعالى:{إنه خبير بما تفعلون} [ النمل: 88]؛وإن قيل: للحصر قلنا: لا يصح ؛لأن الله يعلم كل شيء ؛لا يختص علمه بما نعمل فقط ؛فلا وجه للحصر ؛إذاً ما الفائدة ؟.
فالجواب: الفائدة شدة التحذير ،والتنبيه ،كأنه يقول: لو لم يعلم شيئاً - وحاشاه من ذلك - لكان عالماً بعملنا ؛فمن قوة التحذير والإنذار جاء الكلام على وجه الحصر الإضافي .
14 - إذا قال قائل: هل نستفيد من هذا أن من أسماء الله «العليم » ؟قلنا: ربما نقول ذلك ؛وقد لا نقوله ؛قد نقول: إن الاسم إذا قيد بمتعلِّق فإنه ينقلب إلى وصف ،فيكون «عليم بكذا » ليس كقوله تعالى:{وهو السميع العليم} [ البقرة: 137]؛لأن هذا قُيد: «عليم ب ...» ،فكان وصفاً ،وليس اسماً ؛أما لو قال تعالى:{وهو العليم الحكيم} [ الزخرف: 84] لكان هذا اسماً بلا شك .
15 - ومن فوائد الآية: التحذير من المخالفة بكون الله سبحانه وتعالى عالماً بما نعمل ؛وجه التحذير: تقديم المعمول .
16 - ومنها: الرد على غلاة القدرية الذين يقولون: إن الله لا يعلم بأفعال العباد إلا إذا وقعت ؛فإن قوله تعالى:{بما تعملون عليم} يتضمن ما قد عملناه بالفعل ،وما سنعمله .