ثم قال عز وجل:{يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً} الكادح: هو الساعي بجد ونوع مشقة وقوله:{إلى ربك} يعني أنك تكدح كدحاً يوصلك إلى ربك ،كدحاً يوصل إلى الله ،يعني أن منتهى كدحك مهما كنت ينتهي إلى الله ،لأننا سنموت وإذا متنا رجعنا إلى الله عز وجل ،فمهما عملت فإن المنتهى هو الله عز وجل{وأن إلى ربك المنتهى} [ النجم: 42] .ولهذا قال:{كادح إلى ربك كدحاً} حتى العاصي كادح كادحًا غايته الله عز وجل{إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم} [ الغاشية: 25 ،26] .لكن الفرق بين المطيع والعاصي: أن المطيع يعمل عملاً يرضاه الله ،يصل به إلى مرضاة الله يوم القيامة ،والعاصي يعمل عملاً يغضب الله ،لكن مع ذلك ينتهي إلى الله عز وجل إذاً قوله:{يا أيها الإنسان} يعم كل إنسان مؤمن وكافر{إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} الفاء يقول النحويون: إنها تدل على الترتيب والتعقيب ،يعني ،فأنت ملاقيه عن قرب{إن ما توعدون لات} [ الأنعام: 134] .وكل آت قريب{وما يدريك لعل الساعة قريب} [ الشورى: 17] .وإذا شئت أن يتبين لك أن ملاقاة الرب عز وجل قريبة فانظر ما مضى من عمرك الان ،لو مضى لك مئة سنة كأنما هذه السنوات ساعة واحدة .كل الذي مضى من أعمارنا كأنه ساعة واحدة .إذاً هو قريب ،ثم إذا مات الإنسان ،فالبرزخ الذي بين الحياة الدنيا والاخرة قريب قريب كاللحظة ،والإنسان إذا نام نوماً هادئاً ولنقل نام أربعاً وعشرين ساعة ،وقام فإنه يقدر النوم بدقيقة واحدة مع أنه نام أربعاً وعشرين ساعة ،فإذا كان هذا في مفارقة الروح في الحياة يمضي الوقت بهذه السرعة ،فما بالك إذا كانت الروح بعد خروجها من البدن مشغولة إما بنعيم أو جحيم ،ستمر السنوات على الإنسان كأنها لا شيء ،لأن امتداد الزمن في حال يقظتنا ليس كامتداد الزمن في حال نومنا ،فالإنسان المستيقظ من طلوع الشمس إلى زوال الشمس مسافة يحس بأن الوقت طويل ،لكن لو كان نائماً ما كأنها شيء ،والذي أماته الله مئة عام ثم بعثه{قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم} .وأصحاب الكهف لبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وتسع سنين ،فلما بُعثوا قال بعضهم لبعض: كم لبثتم ؟قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم ،وهذا يدل على أن الإنسان يتعجب كيف تذهب السنوات على هؤلاء الأموات ؟نقول نعم ،السنوات ما كأنها إلا دقيقة واحدة ،لأن حال الإنسان بعد أن تفارق الروح بدنه سواء كانت مفارقة كلية أو جزئية غير حاله إذا كانت الروح في البدن ،فإذا كانت الروح في البدن يعاني من المشقة والمشاكل والهواجيس والوساوس أشياء تطيل عليه الزمن ،لكن في النوم يتقلص الزمن كثيراً ،في الموت يتقلص أكثر وأكثر ،فهؤلاء الذين ماتوا منذ سنين طويلة كأنهم لم يموتوا إلا اليوم لو بعثوا لقيل لهم كم لبثتم ؟قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم ،وهذه مسألة قد يرد على الإنسان فيها إشكال ،ولكن لا إشكال في الموضوع مهما طالت المدة بأهل القبور فإنها قصيرة ،ولهذا قال:{فملاقيه} أي ( بالفاء ) الدالة على الترتيب والتعقيب ،وما أسرع أن تلاقي الله عز وجل .ثم قسم الله عز وجل الناس عند ملاقاته تعالى إلى قسمين: منهم من يأخذ كتابه بيمينه ،ومنهم من يأخذ كتابه من وراء ظهره ،{فأما من أوتي كتابه بيمينه .فسوف يحاسب حساباً يسيراً} لما ذكر أن الإنسان كادح إلى ربه{كادحاً} أي عامل بجد ونشاط وأن عمله هذا ينتهي إلى الله عز وجل كما قال الله تعالى:{ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله} [ هود: 123] .لما ذكر هذا قال:{فأما من أوتي كتابه بيمينه}