وقوله تعالى:{في لوح محفوظ} يعني بذلك اللوح المحفوظ عند الله عز وجل الذي هو أم الكتاب كما قال الله تبارك وتعالى:{يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} [ الرعد: 39] .وهذا اللوح كتب الله به مقادير كل شيء ،ومن جملة ما كتب به أن هذا القرآن سينزل على محمد صلى الله عليه وسلّم فهو في لوح محفوظ ،قال العلماء{محفوظ} لا يناله أحد ،محفوظ عن التغيير والتبديل ،والتبديل والتغيير إنما يكون في الكتب الأخرى ؛لأن الكتابة من الله عز وجل أنواع:
النوع الأول: الكتابة في اللوح المحفوظ وهذه الكتابة لا تبدل ولا تغير ،ولهذا سماه الله لوحاً محفوظاً ،لا يمكن أن يبدل أو يغير ما فيه .
الثاني: الكتابة على بني آدم وهم في بطون أمهاتهم ،لأن الإنسان في بطن أمه إذا تم له أربعة أشهر ،بعث الله إليه ملكاً موكلاً بالأرحام ،فينفخ فيه الروح بإذن الله ،لأن الجسد عبارة عن قطعة من لحم إذا نفخت فيه الروح صار إنسانًا ،ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه ،وأجله ،وعمله ،وشقي أو سعيد .
النوع الثالث: كتابة حولية كل سنة ،وهي الكتابة التي تكون في ليلة القدر ،فإن الله سبحانه وتعالى يقدر في هذه الليلة ما يكون في تلك السنة ،قال الله تبارك وتعالى:{فيها يفرق كل أمر حكيم} [ الدخان: 4] .فيكتب في هذه الليلة ما يكون في تلك السنة .
النوع الرابع: كتابة الصحف التي في أيدي الملائكة ،وهذه الكتابة تكون بعد العمل ،والكتابات الثلاث السابقة كلها قبل العمل ،لكن الكتابة الأخيرة هذه تكون بعد العمل ،يكتب على الإنسان ما يعمل من قول بلسانه ،أو فعل بجوارحه ،أو اعتقاد بقلبه ،فإن الملائكة الموكلين بحفظ بني آدم أي بحفظ أعمالهم يكتبون قال الله تعالى:{كلا بل تكذبون بالدين .وإن عليكم لحافظين .كراماً كاتبين .يعلمون ما تفعلون} [ الانفطار: 912] .فإذا كان يوم القيامة فإنه يعطى هذا الكتاب كما قال تعالى:{وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً .اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [ الإسراء: 13 ،14] .يعني تعطى الكتاب ويقال لك أنت: اقرأ وحاسب نفسك ،قال بعض السلف: لقد أنصفك من جعلك حسيباً على نفسك ،وهذا صحيح أي إنصاف أبلغ من أن يقال للشخص تفضل هذا ما عملت حاسب نفسك ،أليس هذا هو الإنصاف ؟!بل أكبر إنصاف هو هذا ،فيوم القيامة تعطى هذا الكتاب منشوراً مفتوحًا أمامك ليس مغلقاً ،تقرأ ويتبين لك أنك عملت في يوم كذا ،في مكان كذا ،كذا وكذا ،فهو شيء مضبوط لا يتغير ،وإذا أنكرت فهناك من يشهد عليك{يوم تشهد عليهم ألسنتهم} يقول اللسان: نطقت بكذا{وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} تقول اليد: بطشت ،تقول الرجل: مشيت ،بل يقول الجلد أيضاً ،الجلود تشهد بما لمست{وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون} [ فصلت: 21] .فالأمر ليس بالأمر الهيننسأل الله تعالى أن يتولانا وإياكم بعفوه ومغفرتهوإلى هنا ينتهي الكلام على هذه السورة العظيمة التي ابتدأها الله تعالى بالقسم بالسماء ذات البروج وأنهاها بقوله:{بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} فمن تمسك بهذا القرآن العظيم فله المجد والعزة والكرامة والرفعة ،ولهذا ننصح أمتنا الإسلامية بادئين بأفراد شعوبها أن يتمسكوا بالقرآن العظيم ،ونوجه الدعوة على وجه أوكد إلى ولاة أمورها أن يتمسكوا بالقرآن العظيم ،وأن لا يغرهم البهرج المزخرف الذي يرد من الأمم الكافرة التي تضع القوانين المخالفة للشريعة ،المخالفة للعدل ،المخالفة لإصلاح الخلق ،أن يضعوها موضع التنفيذ ،ثم ينبذوا كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،وراء ظهورهم ،فإن هذا والله سبب التأخر ولا أظن أحداً يتصور أن أمة بهذا العدد الهائل تكون متأخرة هذا التأخر ،وكأنها إمارة في قرية بالنسبة للدول الكافرة ،لكن سبب ذلك لا شك معلوم هو أننا تركنا ما به عزتنا وكرامتنا وهو: التمسك بهذا القرآن العظيم ،وذهبنا نلهث وراء أنظمة بائدة فاسدة مخالفة للعدل ،مبنية على الظلم والجور ،فنحن نناشد ولاة أمور المسلمين جميعاً ،أناشدهم أن يتقوا الله عز وجل ،وأن يرجعوا رجوعاً حقيقيًّا إلى كتاب الله تعالى ،وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم حتى يستتب لهم الأمن والاستقرار ،وتحصل لهم العزة والمجد والرفعة ،وتطيعهم شعوبهم ،ولا يكون في قلوب شعوبهم عليهم شيء ؛وذلك لأن الإنسان إذا أصلح ما بينه وبين ربه ،أصلح الله ما بينه وبين الناس ،فإذا كان ولاة الأمور يريدون أن تذعن لهم الشعوب ،وأن يطيعوا الله فيهم ،فليطيعوا الله أولاً حتى تطيعهم أممهم ،وإلا فليس من المعقول أن يعصوا مالك الملك وهو الله عز وجل ،ثم يريدون أن تطيعهم شعوبهم هذا بعيد جدًّا ،بل كلما بَعُد القلب عن الله بعد الناس عن صاحبه ،وكلما قَرُب من الله قرب الناس منه ،فنسأل الله أن يعيد لهذه الأمة الإسلامية مجدها وكرامتها ،وأن يذل أعداء المسلمين في كل مكان ،وأن يكبتهم ،وأن يردهم على أعقابهم خائبين ،إنه على كل شيء قدير .