{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ( 1 ) فَتَبَيَّنُواْ( 2 ) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ{[667]} لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( 94 )} .
( 1 ) إذا ضربتم في سبيل الله: هنا بمعنى إذا خرجتم للجهاد في سبيل الله
( 2 ) تبينوا: بمعنى تثبتوا وقد قرئت ( تثبتوا ) أيضا
( 3 ) السلام: قرئت ( السلم ) أيضا واختلفت الأقوال في معناها حيث قيل إنها المسالمة .وقيل إنها تحية الإسلام .وقيل إنها إعلان الإسلام
تعليق على الآية
( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا )الخ .
وجه الخطاب في الآية للمسلمين وقد تضمنت:
( 1 ) أمرا لهم بالتثبت من حقائق الناس الذين يلقونهم إذا ما خرجوا للجهاد في سبيل الله فلا يقاتلون إلا العدو الكفر ولا يقولون لمن ألقى إليهم السلام أو أعلن المسالمة أو الإسلام لست مؤمنا اجتهادا منهم بأنه غير صادق فيما ألقاه وطمعا في المغانم التي ينالونها منه .
( 2 ) وتنبيها تأديبيا وتذكيريا: فعند الله مغانم كثيرة دنيوية وأخروية للمخلصين فلا ينبغي أن يكون عرض الحياة الدنيا باعثا فيهم الطمع ومذهلا لهم عن الحق وصارفا إياهم عن التثبت .وعليهم أن يذكروا أنهم كانوا غير مسلمين فمن الله عليهم وهداهم ،وأن من الممكن أن يمن على غيرهم ويهديهم أيضا .
( 3 ) وتوكيدا ثانيا بوجوب وتنبيها فيه معنى الإنذار بأن الله خبير بما يعملون وبنواياهم التي يضمرونها وراء أعمالهم .
ولقد أول بعض المؤولين{[668]} جملة ( كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم ) بمعنى أنكم كنتم أيضا تخفون إسلامكم في مكة فمن الله عليكم بالنصر والعزة ولا يخلو هذا من وجاهة ،وإن كنا نرى التأويل أولنا به الجملة والذي روي عن مؤولين آخرين{[669]} هو الأوجه .والله أعلم .
وقد روى المفسرون{[670]} في سبب نزول الآية روايات متعددة ومختلفة الأشخاص والوقائع متحدة الموضوع ملخصها: أن بعض المسلمين خرجوا في سرية جهادية فلقوا شخصا معه غنم أو عنده مال فحياهم بالسلام أو بادرهم بكلمة التوحيد فلم يصدقوه ،وظنوا أن ذلك منه تقية وخداع فقتلوه واستولوا على غنمه أو ماله .وبعض الروايات تذكر أنه كان بين القتيل والقاتل إحنة في الجاهلية .وقد كان الحادث باعثا لغضب النبي صلى الله عليه وسلم ولاتهامه إياهم بالطمع في ماله حتى قال لهم على سبيل التثريب: ( هلا شققتم عن قلبه ) حينما اعتذروا له فلم تلبث أن نزلت الآية .فأمر النبي بأداء دية القتيل ورد ماله أو غنمه إلى أهله واعتبر القتل من نوع الخطأ وأمر القاتل بعتق رقبة .
ومن جملة الروايات المروية التي أوردناها عن أبي الدرداء في سياق الآيات السابقة .ومن جملة أسماء قواد السرية الذين ذكروا في الروايات أسامة ابن زيد والمقداد ابن الأسود ومحلم ابن جثامة وهذا هو الذي روى أنه كان بينه وبين القتيل إحنة في الجاهلية .وإحدى الروايات فقط رواها الشيخان والترمذي وأبو داود عن ابن عباس بهذا النص ( مر رجل من بني سليم على نفر من أصحاب النبي صلى الله عيه وسلم غنم فسلم عليهم فقالوا: ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم ،فقاموا فقتلوه وأخذوا غنمه ،فأتوا بها رسول الله فنزلت الآية{[671]} .
وهناك حديث يرويه مسلم وأبو داود عن أسامة فيه حادث مشابه ولكن لا يذكر أن الآية نزلت فيه جاء فيه ( قال أسامة: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى الحرقات فنذروا بنا فهربوا فأدركنا رجلا فلما غشيناه قال: لا إلاه إلا الله فضربناه حتى قتلناه ،فذكرت ذلك للنبي فقال: من لك بلا إلاه إلا الله يوم القيامة فقلت: يا رسول الله إنما قالها مخافة السلاح .قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا ؟من لك بلا إلاه إلا الله يوم القيامة ؟فما زال يقولها حتى وددت أني لم أسلم إلا يومئذ{[672]} وبقطع النظر عن التعدد والتباين في الروايات فإن الآية متسقة مع ما جاء فيها بحيث يسوغ إن حادثا مما ذكر فيها كان سبب نزول الآية .
ويبدو شيء من التناسب الموضوعي بينها وبين الآيات السابقة لها .فإما أن تكون نزلت بعدها فوصفت في ترتيبها وإما أن تكون نزلت لحدتها فوصفت في ترتيبها للتناسب الموضوعي .
والآية في حد ذاتها جملة تشريعية تامة .وقد احتوت حكما محكما رائعا وتلقينا جليلا ودرسا وتوجيها بليغين مستمري المدى في كل ظرف ومكان من مداهما أنه لا ينبغي أن تكون الغنائم هدفا جوهريا من أهداف الجهاد أولا ،ويجب أن يقبل من الناس ثانيا ظواهرهم إذا لم يكن هناك ما يكذبها فعلا وبخاصة دعوى السلام والإسلام والمسالمة .وإيذان بأن الإسلام أو المسالمة ثالثا هما المطلوبان من كل كافر ،فإن تحققا امتنع سواغ القتل والقتال .ويظل كل هذا متلألئا في غرة الشريعة الإسلامية على مدى الدهر .