( ما ) على بابها ؛ لأنها واقعة على معبوده صلى الله عليه وسلم على الإطلاق ؛ لأن امتناعهم من عبادة الله تعالى ليس لذاته ؛ بل كانوا يظنون أنهم يعبدون الله تعالى ، ولكنهم كانوا جاهلين به .
فقوله:{ ولا أنتم عابدون ما أعبد} أي:لا أنتم تعبدون ، هذا جواب بعضهم .
وقال آخرون:إن «ما » هنا مصدرية لا موصولة ، أي لا تعبدون عبادتي . ويلزم من تبرئتهم عن عبادته تبرئتهم عن المعبود ؛ لأن العبادة متعلقة به ، وليس هذا بشيء ، إذ المقصود:براءته من معبوديهم ، وإعلامه أنهم بريئون من معبوده تعالى . فالمقصود المعبود لا العبادة .
وقيل:إنهم كانوا يقصدون مخالفته صلى الله عليه وسلم حسدا له ، وأنفة من اتباعه . فهم لا يعبدون معبوده لا كراهية لذات المعبود ، ولكن كراهية لاتباعه صلى الله عليه وسلم ، وحرصا على مخالفته في العبادة . وعلى هذا فلا يصح في النظم البديع والمعنى الرفيع إلا لفظ «ما » لإبهامها ومطابقتها الغرض الذي تضمنته الآية .
وقيل في ذلك وجه رابع ، وهو:قصد ازدواج الكلام في البلاغة والفصاحة مثل قوله:{ نسوا الله فنسيهم} [ التوبة:67]{ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه} [ البقرة:194] فكذلك{ لا أعبد ما تعبدون} ومعبودهم لا يعقل . ثم ازدوج مع هذا الكلام قوله:{ ولا أنتم عابدون ما أعبد} فاستوى اللفظان ، وإن اختلف المعنيان ، ولهذا لا يجيء في الأفراد مثل هذا ، بل لا يجيء إلا ( من ) كقوله:{ قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر} [ الأنعام:63] ،{ قل من يرزقكم} [ يونس:31] ،{ أمن يملك السمع والأبصار} [ يونس:31]{ أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر} [ النمل:63]{ أمن يجيب المضطر إذا دعاه} [ النمل:62]{ أمن يبدأ الخلق} [ النمل:64] إلى أمثال ذلك .
وعندي فيه وجه خامس ، أقرب من هذا وهو:أن المقصود هنا ذكر المعبود الموصوف بكونه أهلا للعبادة مستحقا لها ، فأتى ب «ما » الدالة على هذا المعنى . كأنه قيل:ولا أنتم عابدون معبودي الموصوف بأنه المعبود الحق ، ولو أتى بلفظة «من » لكانت إنما تدل على الذات فقط ، ويكون ذكر الصلة تعريفا ، لا أنه هو جهة العبادة .
ففرق بين أن يكون كونه تعالى أهلا لأن يعبد ، تعريفا محضا أو وصفا مقتضيا لعبادته . فتأمله فإنه بديع جدا . وهذا معنى قول النحاة:أن ( ما ) تأتي لصفات من يعلم .
ونظيره:{ فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [ النساء:3] لما كان المراد الوصف ، وأن السبب الداعي إلى الأمر بالنكاح ، وقصده - وهو الطيب - فتنكح المرأة الموصوفة به ، أتى ب «ما » دون «من » ، وهذا باب لا ينخرم ، وهو من ألطف مسالك العربية .
وإذ قد أفضى الكلام بنا إلى هنا ، فلنذكر فائدة ثانية على ذلك ، وهي تكرير الأفعال في هذه السورة .
ثم فائدة ثالثة:وهي كونه كرر الفعل في حق نفسه بلفظ المستقبل في الموضعين ، وأتى في حقهم بالماضي .
ثم فائدة رابعة:وهي أنه جاء في نفي عبادة معبودهم بلفظ الفعل المستقبل ، وجاء في نفي عبادتهم معبوده باسم الفاعل .
ثم فائدة خامسة:وهي كون إيراده النفي هنا ب «لا » دون «لن » .
ثم فائدة سادسة:وهي أن طريقة القرآن في مثل هذا أن يقرن النفي بالإثبات ، فينفي عبادة ما سوى الله ويثبت عبادته ، وهذا هو حقيقة التوحيد . والنفي المحض ليس بتوحيد . وكذلك الإثبات بدون النفي . فلا يكون التوحيد إلا متضمنا للنفي والإثبات ، وهذا حقيقة «لا إله إلا الله » .
فلم جاءت هذه السورة بالنفي المحض ، وما سر ذلك ؟
وفائدة سابعة:وهي ما حكمة تقديم نفي عبادته عن معبودهم ، ثم نفي عبادتهم عن معبوده ؟
وفائدة ثامنة:وهي أن طريقة القرآن إذا خاطب الكفار أن يخاطبهم بالذين كفروا ، والذين هادوا ، كقوله:{ يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم} [ بالتحريم:7] ،{ قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله} [ الجمعة:6] ولم يجيء:{ يا أيها الكافرون} إلا في هذا الموضع ، فما وجه هذا الاختصاص ؟
وفائدة تاسعة:وهي:أن في قوله:{ لكم دينكم ولي دين} [ الكافرون:6] معنى زائد على النفي المتقدم ، فإنه يدل على اختصاص كل بدينه ومعبوده ، وقد فهم هذا من النفي فما أفاد التقسيم المذكور ؟
وفائدة عاشرة:وهي تقديم ذكرهم ومعبودهم في هذا التقسيم والاختصاص ، وتقديم ذكر شأنه وفعله في أول السورة .
وفائدة حادية عشرة:وهي أن هذه السورة قد اشتملت على جنسين من الأخبار:
أحدهما:براءته من معبودهم ، وبراءتهم من معبوده ، وهذا لازم أبدا .
الثاني:إخباره بأن له دينه ، ولهم دينهم .
فهل هذا متاركة وسكوت عنهم ، فيدخله النسخ بالسيف ، أو التخصيص ببعض الكفار ، أم الآية باقية على عمومها وحكمها ، غير منسوخة ولا مخصوصة ؟
الجواب على المسائل السابقة:
فهذه عشر مسائل في هذه السورة . ذكرنا منها مسألة واحدة ، وهي وقوع ( ما ) فيها بدل ( من ) .
فنذكر المسائل التسع مستمدين من فضل الله ، مستعينين بحوله وقوته ، متبرئين إليه من الخطأ ، فما كان من صواب فمنه وحده لا شريك له ، وما كان من خطأ فمنا ومن الشيطان ، والله تعالى ورسوله بريئان منه .
وأما المسألة الثانية:وهي فائدة تكرار الأفعال . فقيل فيه وجوه:
أحدها:أن قوله:{ لا أعبد ما تعبدون} نفي للحال والمستقبل ، وقوله:{ ولا أنتم عابدون ما أعبد} مقابله ، أي لا تفعلون ذلك . وقوله{ ولا أنا عابد ما عبدتم} أي لم يكن مني ذلك قط قبل نزول الوحي ، ولهذا أتى في عبادتهم بلفظ الماضي فقال:{ ما عبدتم} فكأنه قال:لم أعبد قط ما عبدتم . وقوله:{ ولا أنتم عابدون ما أعبد} مقابله ، أي لم تعبدوا قط في الماضي ما أعبده أنا دائما .
وعلى هذا فلا تكرار أصلا . وقد استوفت الآيات أقسام النفي ماضيا وحالا ومستقبلا عن عبادته وعبادتهم بأوجز لفظ وأحضره وأبينه ، وهذا إن شاء الله أحسن ما قيل فيها . فلتقتصر عليه ولا تتعداه إلى غيره . فإن الوجوه التي قيلت في مواضعها ، فعليك بها .
وأما المسألة الثالثة ، وهي تكريره الأفعال بلفظ المستقبل حين أخبر عن نفسه وبلفظ الماضي حين أخبر عنهم .
ففي ذلك سر ، وهو الإشارة والإيماء إلى عصمة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم عن الزيغ والانحراف عن عبادة معبوده ، والاستبدال به غيره ، وأن معبوده الحق واحد في الحال والمآل على الدوام ، لا يرضى به بدلا ، ولا يبغي عنه حولا ، بخلاف الكافرين فإنهم يعبدون أهواءهم ، ويتبعون شهواتهم في الدين وأغراضهم ، فهم بصدد أن يعبدوا اليوم معبودا ، وغدا غيره ، فقال:{ لا أعبد ما تعبدون} يعني الآن{ ولا أنتم عابدون ما أعبد} أي الآن أيضا . ثم قال:{ ولا أنا عابد ما عبدتم} يعني ولا أنا فيما يستقبل يصدر مني عبادة لما عبدتم أيها الكافرون ، وأشبهت ما هنا رائحة الشرط ، فلذلك وقع بعدها الفعل بلفظ الماضي ، وهو مستقبل في المعنى ، كما يجيء ذلك بعد حرف الشرط ، كأنه يقول:مهما عبدتم من شيء فلا أعبده أنا .
فإن قيل:وكيف يكون فيها الشرط ، وقد عمل فيها الفعل ، ولا جواب لها وهي موصولة . فما أبعد الشرط منها ؟
قلنا:لم نقل أنها نفسها شرط ، ولكن فيها رائحة منه ، وطرف من معناه لوقوعها على غير معين ، وإبهامها في المعبودات وعمومها . وأنت إذا ذقت معنى هذا الكلام وجدت معنى الشرط باديا على صفحاته . فإذا قلت لرجل ما - تخالفه في كل ما يفعل -:أنا لا أفعل ما تفعل . ألست ترى معنى الشرط قائما في كلامك وقصدك ، وأن روح هذا الكلام:مهما فعلت من شيء فإني لا أفعله ؟
وتأمل ذلك من مثل قوله تعالى:{ قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا} [ مريم:29] كيف تجد معنى الشرطية فيه ؟ حتى وقع الفعل بعد «من » بلفظ الماضي ، والمراد به المستقبل ، وأن المعنى:من كان في المهد صبيا فكيف نكلمه ؟ وهذا هو المعنى الذي حام حوله من قال من المفسرين والمعربين:أن «كان » نبيا بمعنى «يكون » ، لكنهم لم يأتوا إليه من بابه ؛ بل ألقوه عطلا من تقدير وتنزيل ، وعزب فهم غيرهم عن هذا ، للطفه ودقته . فقالوا:«كان » زائدة .
والوجه ما أخبرتك به ، فخذه عفوا ، لك غنمه ، وعلى سواك غرمه . هو على «من » في الآية قد عمل فيها الفعل وليس لها جواب ، ومعنى الشرطية قائم فيها ، فكذلك في قوله:{ ولا أنا عابد ما عبدتم} وهذا كله مفهوم من كلام فحول النحاة كالزجاج وغيره .
فإذا ثبت هذا فقد صحت الحكمة التي من أجلها جاء الفعل بلفظ الماضي من قوله:{ ولا أنا عابد ما عبدتم} بخلاف قوله:{ ولا أنتم عابدون ما أعبد} لبعد «ما » فيها عن معنى الشرط ، تنبيها من الله على عصمة نبيه أن يكون له معبود سواه ، وأن يتنقل في المعبودات تنقل الكافرين .
أما المسألة الرابعة:وهي أنه لم يأت النفي في حقهم إلا باسم الفاعل ، وفي جهته جاء بالفعل تارة ، وباسم الفاعل أخرى .
فذلك - والله أعلم- لحكمة بديعة وهي:أن المقصود الأعظم براءته من معبوديهم بكل وجه وفي كل وقت . فأتى أولا بصيغة الفعل الدالة على الحدوث والتجدد ، ثم أتى في هذا النفي بعينه بصيغة اسم الفاعل في الثاني:أن هذا ليس وصفي ولا شأني ، فكأنه قال:عبادة غير الله لا تكون فعلا لي ولا وصفا لي . فأتى بنفيين لمنفيين مقصودين بالنفي .
وأما في حقهم فإنما أتى بالاسم الدال على الوصف والثبوت دون الفعل . أي أن الوصف الثابت اللازم العائد لله منتف عنكم ، فليس هذا الوصف ثابتا لكم ، وإنما ثبت لمن خص الله وحده بالعبادة ، لم يشرك معه فيها أحدا ، وأنتم لما عبدتم غيره فلستم من عابديه . وإن عبدوه في بعض الأحيان ، فإن المشرك يعبد الله ويعبد معه غيره ، كما قال أهل الكهف:{ وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله} [ الكهف:16] أي اعتزلتم معبوديهم ، إلا الله ، فإنكم لم تعتزلوه . وكذا قال المشركون عن معبوديهم:{ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [ الزمر:31] فهم كانوا يعبدون معه غيره ، فلم ينف عنهم الفعل لوقوعه منهم ، ونفى الوصف ؛ لأن من عبد غير الله لم يكن ثابتا على عبادة الله موصوفا بها .
فتأمل هذه النكتة البديعة ، كيف تجد في طيها أنه لا يوصف بأنه عابد لله ، وأنه عبده المستقيم على عبادته:إلا من انقطع إليه بكليته ، وتبتل إليه تبتيلا ، لم يلتفت إلى غيره ، ولا عبدا له .
وهذا من أسرار هذه السورة العظيمة الجليلة ، التي هي إحدى سورتي الإخلاص ، التي تعدل ربع القرآن ، كما جاء في بعض السنن . وهذا لا يفهمه كل أحد ، ولا يدركه إلا من منحه الله فهما من عنده . فلله الحمد والمنة .
وأما المسألة الخامسة ، وهي:أن النفي في هذه السورة أتى بأداة «لا » دون «لن » ، فلما تقدم تحقيقه عن قرب أن النفي «بلا » أبلغ منه «بلن » وأن لا أدل على دوام النفي وطوله من «لن » ، وأنها للطول والمد الذي في لفظها طال النفي بها واشتد ، وأن هذا ضد ما فهمته الجهمية والمعتزلة من أن «لن » إنما تنفي المستقبل ، ولا تنفي الحال المستمر النفي في الاستقبال ، وقد تقدم تقرير ذلك بما لا تكاد تجده في غير هذا التعليق ، فالإتيان «بلا » متعين هنا . والله أعلم .
وأما المسألة السادسة:وهي اشتمال هذه السورة على النفي المحض ، وهذا هو خاصة هذه السورة العظيمة ، فإنها سورة البراءة من الشرك ، كما جاء في وصفها:أنها براءة من الشرك . فمقصودها الأعظم:هو البراءة المطلوبة بين الموحدين والمشركين ، ولهذا أتى بالنفي في الجانبين ، تحقيقا للبراءة المطلوبة . وهذا مع أنها متضمنة للإثبات صريحا . فقوله:{ لا أعبد ما تعبدون} براءة محضة:{ ولا أنتم عابدون ما أعبد} إثبات أن له معبودا يعبده وحده ، وأنتم بريئون من عبادته ، فتضمنت النفي والإثبات ، وطابقت قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم إمام الحنفاء:{ إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني} [ الزخرف:26 . 27] وطابقت قول فئة الموحدة:{ وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله} [ الكهف:16] فانتظمت حقيقة ( لا إله إلا الله ) ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرنها بسورة{ قل هو الله أحد} في سنة الفجر وسنة المغرب .
فإن هذين السورتين سورتا الإخلاص ، وقد اشتملتا على نوعي التوحيد الذي لا نجاة للعبد ولا فلاح إلا بهما ، وهما توحيد العلم والاعتقاد المتضمن تنزيه الله عما لا يليق به من الشرك والكفر والولد والوالد ، وأنه إله ( أحد صمد لم يلد ) فيكون له فرع:{ ولم يولد} فيكون له أصل:{ ولم يكن له كفوا أحد} فيكون له نظير . ومع هذا فهو الصمد الذي اجتمعت له صفات الكمال كلها .
فتضمنت السورة إثبات ما يليق بجلاله من صفات الكمال ، ونفي ما لا يليق به من الشريك أصلا وفرعا ونظيرا . فهذا توحيد العلم والاعتقاد .
والثاني:توحيد القصد والإرادة وهو:أن لا يعبد إلا إياه ، فلا يشرك به في عبادته سواه ؛ بل يكون وحده هو المعبود .
وسورة:{ قل يا أيها الكافرون} مشتملة على هذا التوحيد .
فانتظمت السورتان نوعي التوحيد وأخلصتا له ، فكان صلى الله عليه وسلم يفتتح بهما النهار في سنة الفجر ، ويختم بهما في سنة المغرب . وفي «السنن »:«أنه كان يوتر بهما » فيكونان خاتمة عمل الليل كما كانا خاتمة عمل النهار .
ومن هنا تخريج جواب المسألة السابعة . وهي:تقديم براءته من معبودهم ، ثم أتبعها ببراءتهم من معبوده فتأمله .
وأما المسألة الثامنة:وهي إثباته هنا بلفظ:{ يا أيها الكافرون} دون يا أيها الذين كفروا فسره - والله أعلم - إرادة الدلالة على أن من كان الكفر وصفا ثابتا لازما لا يفارقه ، فهو حقيق أن يتبرأ الله منه ، ويكون هو أيضا بريئا من الله ، فحقيق بالموحد البراءة منه ، فكان في معرض البراءة التي هي غاية البعد والمجانبة بحقيقة حاله ، التي هي غاية الكفر ، وهو الكفر الثابت اللازم ، في غاية المناسبة ، فكأنه يقول:كما أن الكفر لازم لكم ثابت لا تنتقلون عنه فمجانبتكم والبراءة منكم ثابتة دائما أبدا ، ولهذا أتى فيها بالنفي الدال على الاستمرار مقابلة الكفر الثابت المستمر . وهذا واضح .
المسألة التاسعة:وهي ما هي الفائدة في قوله:{ لكم دينكم ولي دين} وهل أفاد هذا معنى زائدا على ما تقدم ؟
فيقال:في ذلك من الحكمة - والله أعلم - أن النفي الأول أفاد البراءة ، وأنه لا يتصور منه ، ولا ينبغي له:أن يعبد معبوديهم ، وهم أيضا لا يكونون عابدين لمعبوده ، وأفاد آخر السورة إثبات ما تضمنه النفي من جهتهم من الشرك والكفر الذي هو حظهم وقسمهم ونصيبهم ، فجرى ذلك مجرى من اقتسم هو وغيره أرضا فقال له:لا تدخل في حدي ، ولا أدخل في حدك ، لك أرضك ، ولي أرضي ، فتضمنت الآية أن هذه البراءة اقتضت أنا اقتسمنا خطتنا بيننا ، فأصابنا التوحيد والإيمان ، فهو نصيبنا ، وقسمنا الذي نختص به لا تشركونا فيه ، وأصابكم الشرك بالله والكفر به ، فهو نصيبكم وقسمكم الذي تختصمون به لا نشرككم فيه ، فتبارك من أحيا قلوب من شاء من عباده بفهم كلامه .
وهذه المعاني ونحوها إذا تجلت للقلوب . رافلة في حللها ، فإنها تسبى القلوب وتأخذ بمجامعها ، ومن لم يصادف من قلبه حياة فهي خُود تزفُّ إلى ضرير مقعد ، فالحمد لله على مواهبه التي لا منتهى لها ، ونسأله إتمام نعمته .
وأما المسألة العاشرة:وهي تقديم قسمهم ونصيبهم على قسمه ونصيبه ، وفي أول السورة قدم ما يختص بهم . فهذا من أسرار الكلام وبديع الخطاب الذي لا يدركه إلا فحول البلاغة وفرسانها ، فإن السورة لما اقتضت البراءة واقتسام ديني التوحيد والشرك بينه وبينهم ، ورضي كل بقسمه ، وكان المحق هو صاحب القسمة ، وقد برز النصيبين وميز القسمين ، وعلم أنهم راضون بقسمهم الدون ، الذي لا أردأ منه ولا أدون ، وأنه هو قد استولى على القسم الأشرف والحظ الأعظم ، بمنزلة من اقتسم هو وغيره سما وشفاء ، فرضي مقاسمه بالسم ، فإنه يقول له:لا تشاركني في قسمي ، ولا أشاركك في قسمك ، لك قسمك ، ولي قسمي .
فتقديم ذكر قسمه هنا أحسن وأبلغ ، كأنه يقول:هذا هو قسمك الذي آثرته بالتقديم ، وزعمت أنه أشرف القسمين ، وأحقهما بالتقديم ، فكان في تقديم ذكر قسمه من التهكم بهم ، والنداء على سوء اختيارهم ، وقبح ما رضوه لأنفسهم من الحسن والبيان ، ما لا يوجد في ذكر تقديم قسم نفسه ، والحاكم في هذا هو الذوق . والفطن يكتفي بأدنى إشارة ، وأما غليظ الفهم فلا ينجع فيه كثرة البيان .
ووجه ثان ، وهو:أن مقصود السورة براءته صلى الله عليه وسلم من دينهم ومعبودهم ، هذا هو لبها ومغزاها ، وجاء ذكر براءتهم من دينه ومعبوده بالقصد الثاني ، مكملا لبراءته ومحققا لها ، فلما كان المقصود براءته من دينهم بدأ به في أول السورة ، ثم جاء قوله:{ لكم دينكم} مطابقا لهذا المعنى ، أي لا أشارككم في دينكم ، ولا أوافقكم عليه ؛ بل هو دين باطل تختصون أنتم به لا أشارككم فيه أبدا . فطابق آخر السورة أولها ، فتأمل .
وأما المسألة الحادية عشرة:وهي أن هذا الإخبار بأن لهم دينهم وله دينه . هل هو إقرار ؟ فيكون منسوخا ، أو لا نسخ في الآية ولا تخصيص ؟
فهذه مسألة شريفة من أهم المسائل المذكورة ، وقد غلط في السورة خلائق وظنوها آية منسوخة بآية السيف ، لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير لهم على دينهم ، وظن آخرون أنها مخصوصة بمن يقرون على دينهم وهم أهل الكتاب ، وكلا القولين غلط محض ، فلا نسخ في السورة ولا تخصيص ، بل هي محكمة ، عمومها نص محفوظ ، وهي من السور التي يستحيل دخول النسخ في مضمونها ، فإن أحكام التوحيد التي اتفقت عليه دعوة الرسل يستحيل دخول النسخ فيه . وهذه السورة أخلصت التوحيد ، ولهذا تسمى سورة الإخلاص كما تقدم .
ومنشأ الغلط:ظنهم أن الآية اقتضت إقرارهم على دينهم ، ثم رأوا أن هذا الإقرار زال بالسيف ، فقالوا منسوخ .
وقالت طائفة:زال عن بعض الكفار - وهم لا كتاب لهم – فقالوا:هذا مخصوص بأهل الكتاب .
ومعاذ الله أن تكون الآية اقتضت تقريرا لهم أو إقرارا على دينهم أبدا ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه أشد في الإنكار عليهم ، وعيب دينهم ، وتقبيحه والنهي عنه ، والتهديد والوعيد لهم كل وقت ، وفي كل ناد ، وقد سألوه أن يكف عن ذكر آلهتهم . وعيب دينهم ، ويتركونه وشأنه ، فأبى إلا مضيا على الإنكار عليهم وعيب دينهم ، فكيف يقال:إن الآية اقتضت تقريره لهم ؟ معاذ الله من هذا الزعم الباطل ، وإنما الآية اقتضت براءته المحضة كما تقدم ، وأن ما أنتم عليه من الدين لا نوافقكم عليه أبدا ، فإنه دين باطل ، فهو مختص بكم ، لا نشارككم فيه ، ولا أنتم تشركوننا في ديننا الحق ، وهذا غاية البراءة والتنصل من موافقتهم في دينهم ، فأين الإقرار ؟ حتى يدعوا النسخ أو التخصيص ؟
أفترى إذا جوهدوا بالسيف كما جوهدوا بالحجة لا يصح أن يقال:{ لكم دينكم ولي دين} بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين إلى أن يطهر الله منهم عباده وبلاده .
وكذلك حكم هذه البراءة بين أتباع الرسول الله صلى الله عليه وسلم أهل سنته وبين أهل البدع المخالفين لما جاء به ، الداعين إلى غير سنته ، إذا قال لهم خلفاء الرسول وورثته:لكم دينكم ولنا ديننا . لا يقتضي هذا إقرارهم على بدعتهم .
بل يقولون لهم هذا براءة منهم ومن بدعتهم ، وهم مع هذا منتصبون للرد عليهم ولجهادهم بحسب الإمكان .
فهذا ما فتح الله العظيم به من هذه الكلمات اليسيرة ، والنبذة المشيرة إلى عظمة هذه
السورة ، وجلالتها ومقصودها ، وبديع نظمها من غير استعانة بتفسير ، ولا تتبع لهذه الكلمات من مظان توجد فيه ؛ بل هي استجلاء مما علمه الله وألهمه ، بفضله وكرمه ،
والله يعلم أني لو وجدتها في كتاب لأضفتها إلى قائلها ، ولبالغت في استحسانها . وعسى الله ، المانُّ بفضله الواسع العطاء الذي عطاؤه على غير قياس المخلوقين:أن يعين على تعليق تفسير هذا النمط وهذا الأسلوب .
وقد كتبت على مواضع متفرقة من القرآن بحسب ما يسنح من هذا النمط ، وقت مقامي بمكة وبالبيت المقدس . والله المرجو إتمام نعمته .