ومع أن موسى- عليه السلام- قد قال للإسرائيلى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ إلا أن همته العالية، وكراهيته للظلم، وطبيعته التي تأبى التخلي عن المظلومين كل ذلك دفعه إلى إعداد نفسه لتأديب القبطي، ويحكى القرآن ذلك فيقول:فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما ...
والبطش:هو الأخذ بقوة وسطوة. يقال:بطش فلان بفلان إذا ضربه بعنف وقسوة.
أى:فحين هيأ موسى- عليه السلام- نفسه للبطش بالقبطي الذي هو عدو لموسى وللإسرائيلى، حيث لم يكن على دينهما.
قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ، إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ، وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ.
ويرى بعض المفسرين، أن القائل لموسى هذا القول، هو الإسرائيلى، الذي طلب من موسى النصرة والعون، وسبب قوله هذا:أنه توهم أن موسى يريد أن يبطش به دون القبطي، عند ما قال له:إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ.
فيكون المعنى:قال الإسرائيلي لموسى بخوف وفزع:يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا- هي نفس القبطي- بالأمس، وما تريد بفعلك هذا إلا أن تكون جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ أى:ظالما قتالا للناس في الأرض، وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ الذين يصلحون، بين الناس، فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن.
ويرى بعضهم أن القائل لموسى هذا القول هو القبطي، لأنه فهم من قول موسى للإسرائيلى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ أنه- أى:موسى- هو الذي قتل القبطي بالأمس.
وقد رجح الإمام الرازي هذا الوجه الثاني فقال:والظاهر هذا الوجه، لأنه- تعالى- قال:فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى فهذا القول إذن منه- أى من القبطي- لا من غيره- وأيضا قوله:إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ لا يليق إلا بأن يكون قولا من كافر- وهو القبطي-.
وما رجحه الإمام الرازي هو الذي نميل إليه، وإن كان أكثر المفسرين قد رجحوا الرأى الأول، وسبب ميلنا إلى الرأى الثاني، أن السورة الكريمة قد حكت ما كان عليه فرعون وملؤه من علو وظلم واضطهاد لبنى إسرائيل، ومن شأن الظالمين أنهم يستكثرون الدفاع عن المظلومين، بل ويتهمون من يدافع عنهم بأنه جبار في الأرض، لذا نرى أن القائل هذا القول لموسى، هو القبطي، وليس الإسرائيلى- والله أعلم بمراده-.