الْآيَةُ الْأُولَى:قَوْله تَعَالَى:{ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أَهْلِ الْكِتَابِ من دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِن اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ من حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى:قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ:سُورَةُ الْحَشْرِ ؟ قَالَ:قُلْ سُورَةُ النَّضِيرِ ، وَهُمْ رَهْطٌ من الْيَهُودِ من ذُرِّيَّةِ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلُوا الْمَدِينَةَ فِي فَنَنِ بَنِي إسْرَائِيلَ انْتِظَارًا لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فَكَانَ من أَمْرِهِمْ مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ .
المسألة الثَّانِيَةُ:قَوْله تَعَالَى:{ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ:جَلَاءُ الْيَهُودِ .
الثَّانِي:إلَى الشَّامِ ؛ لِأَنَّهَا أَرْضُ الْمَحْشَرِ ؛ قَالَهُ عُرْوَةُ ، وَالْحَسَنُ .
الثَّالِثُ:قَالَ قَتَادَةُ:أَوَّلُ الْحَشْرِ نَارٌ تَسُوقُ النَّاسَ إلَى الْمَغَارِبِ ، وَتَأْكُلُ مَنْ خُلِّفَ [ فِي الدُّنْيَا] .
وَنَحْوُهُ رَوَى وَهْبٌ عَنْ مَالِكٍ قَالَ:قُلْت لِمَالِكٍ:هُوَ جَلَاؤُهُمْ عَنْ دَارِهِمْ ؟ فَقَالَ لِي:الْحَشْرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَشْرُ الْيَهُودِ ؛ قَالَ:وَإِجْلَاءُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -الْيَهُودَ إلَى خَيْبَرَ حِينَ سُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ فَكَتَمُوهُ فَاسْتَحَلَّهُمْ بِذَلِكَ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:لِلْحَشْرِ أَوَّلٌ وَوَسَطٌ وَآخِرٌ ؛ فَالْأَوَّلُ إجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ ، وَالْأَوْسَطُ إجْلَاءُ خَيْبَرَ ، وَالْآخِرُ حَشْرُ الْقِيَامَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَأَشَارَ إلَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ .
المسألة الثَّالِثَةُ:فِي وَقْتِهَا:
قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ:كَانَتْ بَعْدَ بَدْرٍ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ . وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ:كَانَتْ بَعْدَ أُحُدٍ ، وَبَعْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ ، وَكَانَتْ عَلَى يَدَيْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ ، وَاخْتَارَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهَا قَبْلَ أُحُدٍ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .
المسألة الرَّابِعَةُ:قَوْله تَعَالَى:{ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ من اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ من حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}:وَثِقُوا بِحُصُونِهِمْ ، وَلَمْ يَثِقُوا بِاَللَّهِ لِكُفْرِهِمْ ، فَيَسَّرَ اللَّهُ مَنَعَتَهُمْ ، وَأَبَاحَ حَوْزَتَهُمْ . وَالْحِصْنُ هُوَ الْعُدَّةُ وَالْعِصْمَةُ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ:
وَلَقَدْ عَلِمْت عَلَى تَوَقِّي الرَّدَى *** أَنَّ الْحُصُونَ الْخَيْلُ لَا مُدُنُ الْقُرَى
يَخْرُجْنَ من خَلَلِ الْقَتَامِ عَوَابِسَا *** كَأَنَامِلِ الْمَقْرُورِ أَقْعَى فَاصْطَلَى
وَلَقَدْ أَحْسَنَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي إصَابَةِ الْمَعْنَى ، فَقَالَ:
وَإِنْ بَاشَرَ الْأَصْحَابُ فَالْبِيضُ وَالْقَنَا *** قِرَاهُ وَأَحْوَاضُ الْمَنَايَا مَنَاهِلُهُ
وَإِنْ يَبْنِ حِيطَانًا عَلَيْهِ فَإِنَّمَا *** أُولَئِكَ عِقَالَاتُهُ لَا مَعَاقِلُهُ
وَإِلَّا فَأَعْلِمْهُ بِأَنَّك سَاخِطٌ *** وَدَعْهُ فَإِنَّ الْخَوْفَ لَا شَكَّ قَاتِلُهُ
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ:قَوْله تَعَالَى:{ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى:قَوْله تَعَالَى:{ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ}:ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ:نُصِرْت بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، فَكَيْفَ لَا يُنْصَرُ بِهِ مَسِيرَةَ مَيْلٍ من الْمَدِينَةِ إلَى مَحَلَّةِ بَنِي النَّضِيرِ . وَهَذِهِ خِصِّيصَةٌ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -دُونَ غَيْرِهِ .
المسألة الثَّانِيَةُ:قَوْله تَعَالَى:{ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ}:فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ:يُخْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ بِنَقْضِ الْمُوَادَعَةِ ، وَبِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُقَاتَلَةِ ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ . الثَّانِي:بِأَيْدِيهِمْ فِي تَرْكِهِمْ لَهَا ، وَبِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فِي إجْلَائِهِمْ عَنْهَا ؛ قَالَهُ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ .
الثَّالِثُ بِأَيْدِيهِمْ دَاخِلَهَا ، وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ خَارِجَهَا ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ .
الرَّابِعُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ إذَا هَدَمُوا بَيْتًا من خَارِجِ الْحِصْنِ هَدَمُوا بُيُوتَهُمْ يَرْمُونَهُمْ مِنْهَا . الْخَامِسُ كَانُوا يَحْمِلُونَ مَا يُعْجِبُهُمْ فَذَلِكَ خَرَابُ أَيْدِيهِمْ .
وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ:أَنَّ التَّنَاوُلَ لِلْإِفْسَادِ إذَا كَانَ بِالْيَدِ كَانَ حَقِيقَةً ، وَإِنْ كَانَ بِنَقْضِ الْعَهْدِ كَانَ مَجَازًا ، إلَّا أَنَّ قَوْلَ الزُّهْرِيِّ فِي الْمَجَازِ أَمْثَلُ من قَوْلِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ .
المسألة الثَّالِثَةُ:زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا بِالتَّشْدِيدِ أَرَادَ هَدْمَهَا ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالتَّخْفِيفِ أَرَادَ جَلَاءَهُمْ عَنْهَا ؛ وَهَذِهِ دَعْوَى لَا يُعَضِّدُهَا لُغَةٌ وَلَا حَقِيقَةٌ ، وَالتَّضْعِيفُ بَدِيلُ الْهَمْزَةِ فِي الْأَفْعَالِ .
المسألة الرَّابِعَةُ:قَوْله تَعَالَى:{ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}:
وَهِيَ كَلِمَةٌ أُصُولِيَّةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا ، وَمِنْ وُجُوهِ الِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ اعْتَصَمُوا بِالْحُصُونِ دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَأَنْزَلَهُمْ اللَّهُ مِنْهَا ، وَمِنْ وُجُوهِهِ أَنَّهُ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ يَرْجُوهُمْ ، وَمِنْ وُجُوهِهِ أَنَّهُمْ هَدَمُوا أَمْوَالَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ . وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ بِغَيْرِهِ اعْتَبَرَ بِنَفْسِهِ ، وَمِنْ الْأَمْثَالِ الصَّحِيحَةِ:السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ .