قوله تعالى: ( ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) .
نبادر هنا بالحديث عن الأحرف الهجائية الثلاثة التي بدئت بها هذه السورة وهي الألف واللام والميم على نحو ما بيناه في سورة البقرة عن هذه المسألة .
وهذه الأحرف الثلاثة واحدة من فواتح السور التي بدئ بها كثير من سور الكتاب الحكيم ،على أن الكلام في تفصيل هذه الأحرف الفواتح طويل مما هو موضع تفصيل وخلاف بين العلماء .حتى إن تأويل ذلك قد بلغ من الأقوال بضعا وعشرين وهي أقوال يميزها العمق والتباين والتفاوت{[383]} لكننا نقتضب منها أقوالا ثلاثة هي:
القول الأول: وهو أن مثل هذا العلم مستور وسر محجوب استأثر الله تبارك وتعالى به .وقد ذهب إلى ذلك فريق من الصحابة وآخرين .وفي هذا الصدد يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لله في كل كتاب سر .وسره في القرآن أوائل السور .
وقال علي رضي الله عنه: إن لكل كتاب صفوة ،وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي .
وسئل الشعبي عن هذه الحروف فقال: سر الله فلا تطلبوه .وروي عن ابن عباس قال: عجزت العلماء عن إدراكها .وقال الحسين بن الفضل: هو من المتشابه ،لكن أهل الكلام أنكروا هذا القول وقالوا: لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوما للخلق ،واحتجوا على ذلك بالآيات والأخبار والمعقول{[384]} .
القول الثاني: وهو قول قطرب .وهو أن الكفار لما قالوا: ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) وتواصوا بالإعراض عنه ،أراد الله تعالى أن يورد عليهم ما لا يعرفونه ليكون ذلك سبب لإسكاتهم واستماعهم لما يرد عليه من القرآن ،فأنزل الله تعالى عليهم هذه الحروف فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين: اسمعوا إلى ما يجيء به محمد صلى الله عليه و سلم: فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن ،فكان ذلك سببا لاستماعهم واسترعاء أذهانهن وقلوبهم{[385]} .
ومثل هذا القول معقول وسديد إذا أدركنا ما كان يجده العرب الأقدمون من روعة اللمس والتأثير وهم يتسمعون للقرآن في أول مرة ،فما كانوا يتسمعون لهذا الكلام الحكيم الفذ إلا وهو يجدون برد الإيقاع العجيب يمس قلوبهم ومشاعرهم مسا .ومن أجل ذلك تواصوا فيما بينهم أن يبادروا بالتشويش من لغط الكلام الفارغ اللاغي ما يحول بين القرآن وعقولهم ،حتى بودروا بمثل هاتيك الفواتح من حروف التهجي فما استوقفهم استيقافا ونشر في قلوبهم وأفكارهم غاشية من الوجوم الغامر المذهل .فما كانوا لينصتوا ويستمعوا حتى تفجأهم ألفاظ القرآن بسحائب كثاف مجلجلة من البهر القارع والجمال المستحوذ الأخاذ{[386]} .
القول الثالث: وهو قول المبرد وكثير من المحققين ،إذ قالوا: إن الله تعالى إنما مثل هذه الفواتح احتجاجا على الكفار .وذلك أن الرسول صلى الله عليه و سلم لما تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن ،أو بعشر سور ،أو بسورة واحدة فعجزوا عنه أنزلت هذه الحروف تنبيها على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف ،وأنتم قادرون عليها ،وعارفون بقوانين الفصاحة ،فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن .فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند الله وليس من عند البشر{[387]} .
ومثل هذا التأويل لا يقل –في نظري- سدادا ومعقولية عن التأويل الثاني السابق ؛لما في ذلك من استنهاض للوجدان والحس والذهن جميعا كيما يصحو على الحقيقة الساطعة البلجة الماثلة للفطرة السليمة في هذا الكلام المعجز .