البيان التفصيلي للسورة
قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد} .
هذه الآية بالرغم من قصرها وإيجازها ،فإنها يتجلى فيها الإعجاز في أنصع صوره .فهي بقلة ألفاظها تتضمن جملة من المعاني المختلفة المنسجمة سواء في ذلك الأمر بالوفاء وتحليل بهيمة الأنعام وإباحة الصيد لغير المحرم ،يضاف إلى ذلك استثناء يعقبه استثناء .وذلك كله في كلمات معدودة تضمنها آية بليغة مثلى .لا جرم أن ذلك ضرب من الإعجاز المثير .
وقد حكي في هذا الصدد أن أصحاب الكندي قالوا له: أيها الحكيم ،اعمل لنا مثل هذا القرآن .فقال: نعم !أعمل مثل بعضه .فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد .إني فتحت المصحف فخرجت سورة"المائدة"فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث ،وحلل تحليلا عاما ،ثم استثنى استثناء ،ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ،ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد{[869]} .
قوله:{أوفوا بالعقود} يعني العهود .وهي ما كانوا يتعاقدون عليه من الحلف وغيره .وقيل: العقود التي أمر الله بالوفاء بها ستة هي: عهد الله ،وعقد الحلف ،وعقد الشركة ،وعقد البيع ،وعقد النكاح ،وعقد اليمين .وقيل: يعني بذلك عقود الدين .وهي ما عقده المرء على نفسه من بيع وشراء وإجارة وكراء ومناكحة وطلاق ومزارعة ومصالحة وتمليك وتخيير وعتق وتدبير وغير ذلك من الأمور ،ما كان ذلك غير خارج عن الشريعة .وكذلك ما عقده على نفسه لله من الطاعات كالحج والصيام والاعتكاف والنذر وما أشبه ذلك من طاعات الإسلام .
وقد استدل بعض أهل العلم بهذه الآية على عدم خيار المجلس في البيع ،لأن قوله{أوفوا} يدل على لزوم العقد وثبوته ويقتضي نفي خيار المجلس .وهو قول الحنفية والمالكية ،خلافا لأكثر العلماء وفيهم الشافعية والحنابلة .إذ قالوا بلزوم خيار المجلس في البيع هو أن كلا من العاقدين مخير في إمضاء العقد أو عدم إمضائه ما دام في مجلس العقد ،إلا أن يتفرقا بأبدانهما من مجلس العقد .فإن تفرقا كلاهما أو أحدهما فقد لزم العقد ،واحتجوا لذلك بخبر الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"وفي لفظ آخر للبخاري"إذ تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا"وهذا صريح في إثبات خيار المجلس الذي يأتي عقيب البيع وهو من مقتضياته شرعا فالتزامه من تمام الوفاء بالعقود{[870]} .
قوله:{أحلت لكم بهيمة الأنعام} جاءت هذه الآية لتنزيل ما كان يراود أذهان العرب من ضلالات فاسدة عما أسموه البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي .أما البهيمة ،فهي كل ذات أربع قوائم ولو في الماء ،أو كل حي لا يميز .وجمعه بهائم .والبهمة: أولاد الضأن والمعز والبقر{[871]} .والأنعام هي الإبل و البقر والغنم ،وقيل: الأنعام: الأزواج الثمانية ،ويأتي بيانها فيما بعد إن شاء الله .وقيل بهيمة الأنعام: الظباء وبقر الوحش ونحوها .مما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب .
قوله:{إلا ما يتلى عليكم} ما في موضع نصب على الاستثناء .والتقدير: إلا ما يقرأ عليكم في القرآن والسنة .وفي القرآن كقوله:{حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع} فهذه وإن كانت من الأنعام فإنها محرمة بما أصابها من عوارض كالخنق والوقذ والنطح وغير ذلك .أما في السنة فكقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم والنسائي:"كل ذي ناب من السباع حرام".
قوله:{غير محلى الصيد وأنتم حرم} غير منصوب على الحال .والواو للحال{أنتم حرم} في موضع نصب على الحال .وهذا الاستثناء التالي .وكلا الاستثناءين من قوله:{أحلت لكم بهيمة الأنعام} أما قوله:{غير محلى الصيد وأنتم حرم} فتأويله أن ما كان صيدا فهو حلال في الإحلال .أما الإحرام فهو حرام .
قوله:{إن الله يحكم ما يريد} أي ما يريده من الأحكام مما فيه خير لكم ومصلحة ،وهو سبحانه الحاكم لا معقب لحكمه ولا راد لما يقضي{[872]} .