{ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد( 1 )} .
هذه أول آية من السورة ، وهي تأمر المؤمنين بأن يوفوا بالعهود التي أخذت عليهم بمقتضى الإيمان وهي الطاعة لله تعالى ولرسوله والقيام بالتكليفات الشرعية ، فالعقد هو كل ما يلتزمه المؤمنون ، سواء أكان في الأحكام التكليفية أم من العهود التي يلتزم بها العباد ، وبذلك تشمل ما يعقده الإنسان مع غيره من عقود واجبة الوفاء ، وما يتبادلان فيه الالتزام كالبيع والإجارة وغيرهما وتشمل ما يلتزمه المؤمن من صدقات وما يلزمه الوفاء به بحكم الإيمان فإن الإيمان ميثاق يلتزم فيه العبد بالطاعة فإذا عصى فقد نقض ذلك الميثاق وذلك كما كان يفعل اليهود من نقض للمواثيق المؤكدة ، وإن الأصل اللغوي لمعنى كلمة عقد أنه ربط لطرفي شيء ، ومنه العقدة وقد أطلق على الربط بين كلامين كالعقود القائمة ، وأطلقه القرآن كما في هذا النص على كل الأحكام الواجبة الطاعة لها ، لأنها تشمل معنى الربط لأن المؤمن بمقتضى إيمانه قد عاهد الله تعالى على طاعته والأخذ بكل ما يأمر به وبكل ما ينهى عنه وقد جمع الراغب الأصفهاني معنى كلمة عقد فقال:"العقد:الجمع بين أطراف الشيء ويستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل ، وعقد البناء ثم يستعار للمعاني فيقال نحو عقد البيع والعهد وغيرهما ، يقال:عاقدته وعقدته وتعاقدنا وعقدت يمينه . . .".
والعقد على هذا:كل ارتباط يرتبط به المؤمن بموجب النقل أو بموجب العقل وهو ما يدركه بالبديهة وأدنى نظر ، سواء أكان بينه وبين نفسه بمقتضى إيمانه وخلقه وإنسانيته أم كان بينه وبين غيره ، وكل هذا واجب الوفاء بحكم الله تعالى فأوامر الله تعالى ونواهيه واجبة الوفاء ، وعقود الإنسان مع غيره واجبة الوفاء إلا أن يكون فيها مخالفة لأمر الله تعالى ونهيه ، فكل اتفاق على خلاف ذلك رد على صاحبه ، ولا وفاء فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا"{[854]} ولقوله صلى الله عليه وسلم:"كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، ولو كان مائة شرط"{[855]} ، ولأن تنفيذ العقود التي تتضمن خلاف ما جاء عليه الشرع يكون تنفيذها نقضا لعهد المؤمن الذي يجب تنفيذه وهو طاعة الله تعالى ورسوله ، وعهد الله تعالى أولى بالوفاء ، ولأن عقود الناس تستمد قوة الوفاء من أمر الله فلا يصح أن تكون على خلافه .
فالعقد:معناه في اللغة العربية ضم طرف إلى طرف وربطهما ربطا محكما ، يقال:عقد الرجل طرفي الحبل أو الحبلين إذا ربط أحدهما بالآخر ، وضده الحل أي فك هذا الربط وسمي الإيجاب والقبول عقدا لأنهما يضمان إرادتي المتعاقدين ، ويربطان أحدهما بالآخر .
والعقد معناه في استعمال القرآن الارتباط ، والعقود والعهود والمواثيق والمعاهدات والمحالفات والتعهدات والاتفاقات والالتزامات كلها في استعمال القرآن والاصطلاح الشرعي ألفاظ متقاربة المعنى المراد بها الارتباطات ، سواء أكانت ارتباطات بين أفراد أو حكومات أو جماعات ، وسواء أكانت ارتباطات على عمل أو على كف عن عمل ، والفروق التي يقررها علماء القانون الدولي لهذه الألفاظ لا تعرف في الاصطلاح الشرعي .
والإيفاء بالعقد معناه تنفيذ ما يقتضيه والقيام بما يوجبه وافيا تاما غير منقوص ، والإيفاء بالعقد والوفاء به والتوفية به ألفاظ مترادفة معناها واحد .
والمعنى بالإجمال:يا أيها المؤمنون نفذوا ارتباطاتكم ، وقوموا بما تعاقدتم على القيام به وافيا تاما ، وقد ذكر سبحانه العقود التي أمر بالإيفاء بها بصيغة العموم ولم يخصصها بنوع لتشمل كل ارتباط يرتبط به المؤمن ، سواء أكان ارتباطه مع ربه أم ارتباطه مع نفسه أم ارتباطه مع فرد آخر ، وسواء أكان ارتباط جماعتهم أو حكومتهم على عمل ، أو كف عن عمل ولهذا قال المحققون من المفسرين:العقود التي أمر الله المؤمنين أن يوفوا بها تشمل أربعة أنواع:
الأول:العقود التي عقدها المؤمن مع ربه بسبب إيمانه فكل من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد التزم لله بأن يطيعه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وإحلال ما أحله وتحريم ما حرمه ، فهذا عقد بين المؤمن وربه ، وسبب الالتزام فيه إيمانه . وإلى هذا أشار الله سبحانه بقوله:{ واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا . . . ( 7 )} ، وبقوله:{ الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق( 20 )}( الرعد ) .
الثاني:العقود التي عقدها المؤمن مع نفسه بسبب حلفه على أن يفعل فعلا أو يكف عن فعل ، أو نذره أن يفعل فعلا أو يكف عن فعل فكل من حلف على فعل أو كف عن فعل أو نذر فعلا أو كفا عن فعل فقد التزم أن يبر بيمينه ، وأن يوفي بنذره . وسبب الالتزام يمينه أو نذره . وإلى هذا أشار الله سبحانه بقوله:{. . .وليوفوا نذورهم . . .( 29 )}( الحج ) .
الثالث:العقود التي يعقدها الأفراد بعضهم مع بعض من بيع وإجارة ورهن وشركة ومضاربة وزواج ونحوها ، فكل من ارتبط مع غيره بعقد فعليه أن ينفذ موجب هذا العقد ولا يخل بشيء مما يقتضيه وسبب الالتزام عقده بإرادته واختياره .
الرابع:العقود التي تعقدها الحكومة الإسلامية مع غيرها من الحكومات في السلم والحرب ، فإذا تعاقدت دولة إسلامية مع أية دولة على أحكام عسكرية أو مدنية دفاعية أو هجومية إيجابية أو سلبية فعلى الحكومة أن توفي بعقودها وتنفذ التزاماتها .
فالله سبحانه أمر المؤمنين بأن يوفوا بكل الارتباطات التي يرتبطون بها أفرادا أو جماعات أو حكومات مع ربهم أو مع أنفسهم أو مع أبناء نوعهم .
قال الإمام أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص المتوفي سنة( 370ه ) في كتابه في تفسير آيات الأحكام:العقد ما يعقده العاقد مع نفسه على أمر يفعله هو ، أو ما يعقده مع غيره ، ويسمى اليمين على المستقبل عقدا ، لأن الحالف قد ألزم نفسه الوفاء بما حلف عليه من فعل أو ترك ، وكذلك العهد والأمان لأن معطيه قد ألزم نفسه الوفاء به ، وكذلك كل شرط شرطه الإنسان على نفسه في شيء يفعله في المستقبل فهو عقد ، وكذلك النذر وإيجاب القرب وما جرى مجرى ذلك ، وقد اشتمل قوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} على كل ذلك وعلى إلزام الوفاء بالعهود والذمم التي نعقدها لأهل الحرب وأهل الذمة والخوارج وغيرهم من سائر الناس ، وعلى إلزام الوفاء بالنذور والأيمان . ثم قال:ومتى اختلفنا في جواز عقد من العقود أو فساده أو في صحة نذر ولزومه صح الاحتجاج على جوازه ولزومه بعموم قوله سبحانه:{ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} .
وإذا تعارض الإيفاء بعقد من هذه الأنواع الأربعة مع الإيفاء بعقد آخر منها ، وجب على المؤمن أن يوفي بعقده مع ربه ، ولا يجب عليه أن يوفي بعقده مع نفسه أو مع غيره إذا كان إيفاؤه بعقد منهما يخل بإيفائه بعقد ربه . فإذا حلف على ما فيه مخالفة أمر ربه فليحنث في يمينه وليوف عقده مع ربه ولا يوف بما حلف عليه ، ولهذا ورد في الحديث "من حلف على شيء ورأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه"{[856]} . وإذا عقد عقدا أو شرط شرطا يقضي بتحليل محرم أو تحريم حلال ، أو التزام بباطل شرعا فعليه أن يوفي بعقده مع ربه ولا يوفي بما يخالفه من عقود وشروط ، ولهذا ورد في الحديث:"المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا"{[857]} .
وقد خاطب الله المخاطبين في أمرهم بالإيفاء بالعقود بوصف الإيمان ليشير إلى أن الإيفاء بالعقود مما يقتضيه الإيمان ، وفي هذا حث على امتثال الأمر والإيفاء بالعقد . وهذا الذي أشار إليه القرآن صرح به رسول صلى الله عليه وسلم في سنته إذ عد الوفاء بالعهود من شعائر الإيمان وآيات المؤمن ، ففي الحديث:"آية المؤمن ثلاث:إذا حدث صدق ، وإذا اؤتمن أدى وإذا وعد وفى"{[858]} وكما ذكرهم بإيمانهم في بدء هذه السورة إذ أمرهم بالإيفاء بالعقود جملة ، ذكرهم بإيمانهم في أمرهم بكل عقد فصله فيها . ففي تفصيل ما حرمه قال:{ يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد . . .( 2 )} .
وفي تفصيل التطهر لأداء الصلاة وهي عماد الدين قال:{ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم . . .( 6 )} .
وفي تفصيل عماد الدنيا وهو الشهادة بالقسط في إقامة حقوق الله قال:{ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط . . .( 8 )} .
فالمقصود بهذا إشعار المؤمنين بأن إيفاءهم بالعقود جملة وتفصيلا هو من مقتضى الإيمان وأن نكث العهود والإخلال بما تقتضيه العقود لا يتفق والإيمان . فالمؤمن حقا يوفي بالتزاماته لربه ولنفسه ولغيره . ومن هنا نفهم معنى الحديث:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن"{[859]} .
وإن من أوائل الأحكام الشرعية ما أحله الله تعالى ، وما أحله سبحانه قيده بقيود ولذا قال تعالى:
{. . .أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم . . .( 1 )} ابتدأ الحكم ببيان الحلال من الأطعمة لسببين أولهما أن العرب كانوا يحرمون في الجاهلية على أنفسهم بعض الحيوان لأوهام ورثوها ، لم يأت بها دين ، ولم يتصورها عقل ، وليس للتحريم سبب يدركه أهل العقول ، ثانيهما:أن النص جاء للإباحة مع القيد ، فهي حلال بشرط ألا تكون مما يتلى تحريمه ، وسيبينه الله تعالى من بعد ، والتحريم سببه أحد أمرين:أولهما:ذاتي في ذات الحيوان كالخنزير والميتة ، وما يشبه الميتة من التي تردت في منخفض من الأرض فنفقت ، أو نطحت فهلكت والثاني عرضي بحال معينة كتحريم الصيد ، فالنص لإباحة مقيدة مع ذكر القيد بالإشارة إليه ثم بيانه .
والبهيمة:إسم لكل حيوان أعجم لإبهامه من جهة نقص النطق وعدم تمييزه .
والنعم في أصل الإطلاق العربي يكون على الإبل والبقر والغنم ، واشتقاقها من النعمة لأنها من نعمه سبحانه وتعالى التي أنعم الله بها ، كما قال تعالى:
{ والأنعام خلقها لكم فيها دفئ ومنافع ومنها تأكلون( 5 )}( النحل ) .
ويصح أن يكون مثل الإبل والبقر والغنم كل حيوان أو طير يتغذى من النبات ولم يرد نص بتحريمه فيدخل الظبي وحمار الوحش وغيرهما من آكلات الأعشاب كما يدخل الطير غير سباعه وغيرها .
{ أحلت لكم بهيمة الأنعام} البهيمة في اللغة العربية:هي كل ذات أربع من الدواب ، والأنعام هي الإبل والبقر والغنم ذكورها وإناثها ، وقد بينها الله سبحانه في سورة الأنعام بأنها ثمانية أزواج:من الضأن اثنين( الكبش والنعجة ) ومن المعز اثنين( الجدي والعنز ) ومن الإبل اثنين( الجمل والناقة ) ومن البقر اثنين( الثور أو الفحل والبقرة أو الجاموسة ) . فهذه هي الأنعام في لسان القرآن .
ولما أمر الله المؤمنين بأن يوفوا بالعقود أخذ يفصل لهم العقود التي أمرهم أن يوفوا بها ، وبدأ بأولها وأحقها بالإيفاء وهي عقودهم مع ربهم بمقتضى إيمانهم وبدأ من هذه العقود ببيان ما أباح لهم أكله والانتفاع به من الحيوان ، وما حرمه لأن هذا الأكل والانتفاع أكثر ما يعرض للإنسان ، وأكثر ما يحتاج إلى معرفة حكمه ولأن أهل الجاهلية كانوا قد جاروا وظلموا في حكمهم في الأنعام ، وبنوا تحريمهم لما حرموه منها وتحليلهم ما أحلوه منها على نزعات وثنية وأوهام لا يصح أن يبنى عليها تحريم ولا تحليل ، فجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ، فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ، فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم . وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء ، بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه ، وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء . وجعلوا من الأنعام بحيرة وسائبة ووصيلة وحاميا . . وهكذا ساروا في تحريم الأنعام وإحلالها على ما تقتضيه وثنيتهم لا على ما تقتضيه مصلحتهم . فالله سبحانه بدأ عقوده مع المؤمنين ببيان أنه أباح لهم الأنعام كلها إلا ما يتلو عليهم تحريمه منها . فهو سبحانه بدأ ببيان ما فيه قضاء على وثنيات الجاهلية وبما فيه إشعار المؤمنين بكمال النعمة عليهم إذ أباح لهم الأنعام كلها والانتفاع بها بكل وجوه الانتفاع ، ولم يقيد هذه الإباحة بما كانت تقيده به أهل الجاهلية من قيود وشروط لا تقوم على أساس من المصلحة ، وإنما تقوم على أوهام وأباطيل لا يصح أن يبنى عليها تحريم ما رزق الله به عباده من الطيبات ، بل قيدها باستثناء ما فيه ضرر بصحة الإنسان أو دينه ، وعلى النفع والإضرار يبنى التحليل والتحريم . ومن هذا نفهم الحكمة في أن الله سبحانه قال:{ أحلت لكم بهيمة الأنعام} ولم يقل أحلت لكم الأنعام ، لأنه أراد سبحانه التنبيه إلى أن الأنعام أحلت بوصف أنها بهيمة ، وكل الأنعام ذكورها وإناثها متحقق فيها هذا الوصف ، فكل الأنعام حلال لكم . وإضافة لفظ بهيمة للأنعام لتأكيد عموم الأنعام التي أحلت وللإشارة إلى أن التفريق بين بعض الأنعام وبعضها مع أنها كلها بهيمة ظلم وحظر لما لا مبرر لحظره . وفي سورة الحج:{. . .وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم . . .( 30 )}( الحج ) .
{ إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد} هذان استثناءان من العموم الذي دلت عليه{ أحلت لكم بهيمة الأنعام} لأن معناها أحلت الأنعام كلها لكم جميعا .
استثنى سبحانه من الأنعام التي أحلت الأنعام التي يتلو على المؤمنين آيات تحريمها في قوله سبحانه:
{ يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد . . . ( 2 )} ( المائدة ) وفي قوله:{ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به . . .( 3 )}( المائدة ) وفي قوله:{ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق . . .( 121 )}( الأنعام ) .
واستثنى سبحانه ممن أحلت لهم بهيمة الأنعام المحرمين بالحج أو العمرة أو بالحج والعمرة والموجودين بأرض الحرم سواء أكانوا محرمين أم غير محرمين بقوله تعالى:{ غير محلي الصيد وأنتم حرم} .
والإحرام بأحد النسكين أو بهما معا معناه في الشرع نية النسكين أو أحدهما نية مقرونة بشعار من شعائر الحج كالتلبية أو سوق الهدي . فمن أحرم أي نوى أحد النسكين واتخذ شعاره لا يحل له ما دام محرما أن يصطاد الأنعام ولا غيرها من حيوان البر ، سواء أكان الصيد من أرض الحل أو من أرض الحرم ، ولا يحل له الأكل والانتفاع بما اصطاده وهو محرم . وأما صيد البحر والأكل منه فهو حلال للمحرم قال تعالى:{ أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما . . .( 96 )} .
فالمحرم لا يحل له صيد البر ، سواء أكان في أرض الحل أم في أرض الحرم . وأرض الحرم لا يحل الصيد فيها للمحرم وغير المحرم .
فمعنى{ وأنتم حرم} أي محرمون أو في أرض الحرم ، أي وأنتم في حرمة الإحرام أو حرمة الأرض الحرام . ولله الحكمة البالغة في هذين الاستثناءين ، فإنه استثنى مما أحل ما يتلو على المؤمنين من المحرمات دفعا للضرر عن دينهم وأجسامهم ، وسيتبين في تفصيل المحرمات أن تحريم كل محرم منها إنما هو لدفع أذى ديني أو بدني ، واستثنى ممن أحل لهم فريقين:المحرمين بأحد النسكين لأنه أراد أن يكون إحرام المحرم شعار السلام والأمان ، وتجنب العدوان حتى على الحيوان ومتى عرف المحرم أنه لا يحل له الصيد تجرد من أسلحته وآلاته وانصرف عن التفكير في إزعاج آمن أو مطاردة ضعيف ، والموجود بأرض الحرم مطلقا ، لأنه أراد أن تكون أرض الحرم أمنا حتى للصيد{ أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا . . . ( 67 )} ( العنكبوت ) .
وقد استثنى سبحانه وتعالى من التحليل ما يتلى من بعد ذلك ، وهو ما اشتمل عليه قوله تعالى من بعد:{ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق . . .( 3 )} .
{ إن الله يحكم ما يريد} المعنى:إن الله يحكم الحكم الذي يريده ، لا الحكم الذي تهواه النفوس أو الحكم الذي توارثه الخلف عن السلف . فهو سبحانه إذا حكم بإيجاب الإيفاء بالعقود وحكم بإحلال بهيمة الأنعام وحكم باستثناء بعض الأنعام مما أحله ، وحكم باستثناء الفريقين ممن أحل لهم إنما يصدر في حكمه عن إرادته وسنته في إرادته بينها سبحانه بقوله:{. . .يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر . . .( 185 )}( البقرة ) .
وبقوله:{. . .ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج . . .( 6 )} فأحكامه التي ذكرها مصدرها إرادته وهو ما يريد العسر ولا الحرج بحكمه لا في تحريمه المحرمات ولا إحلاله المباحات وإيجابه الواجبات وكل ما أمر به أو نهى عنه أو شرعه .
ونرى أن "يحكم"تعدت من غير الباء فلم يقل تعالت كلماته:"إن الله يحكم بما يريد"بل قال:{ إن الله يحكم ما يريد} وذلك لتضمن الحكم معنى حد الحدود والمنع عن الموبقات فكان التعدي بغير الباء .
وقد جاء في تفسير القرطبي:"أن هذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام ، فإنها تضمنت خمسة أحكام:الأول:الأمر بالوفاء بالعقود ، والثاني:تحليل بهيمة الأنعام ، الثالث:استثناء ما يتلى بعد ذلك ، الرابع:استثناء حال الإحرام فيما يصاد ، الخامس:ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم . وحكي النقاش:أن أصحاب الكندي قالوا له:أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن ، فقال:أعمل مثل بعضه فاحتجب أياما كثير ثم خرج فقال:والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت ، فإذا هو قد كلف بالوفاء ونهى عن النكث وحلل تحليلا عاما ، ثم استثنى استثناء بعد استثناء ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد"{[860]} اللهم انفعنا بكتابك ، واهدنا بهديه ، واملأ قلبنا بنوره وعلمه إنك أنت العليم الحكيم .
ومن قرأ سورة الأنعام المكية ووقف على ما كان عليه أهل الجاهلية من تحريم وتحليل وبناء على الأهواء والشهوات والتقاليد الوثنية ، يفهم الحكمة البالغة فيما ختمت به هذه الآية من قوله سبحانه:{ إن الله يحكم ما يريد} أي لا يحكم الحكم الذي تقتضيه الأهواء وإنما يحكم الحكم الذي تقتضيه الحكمة والعدالة والمصلحة في الدين والدنيا وهذا يوجب على المؤمن أن يتقبل أحكام الله بالإذعان والتسليم لأن مصدرها إرادة الحكم العدل اللطيف الخبير .