{يا أيّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} هذا هو النداء الأول الذي يخاطب المؤمنين من خلال عنوان الإيمان ،ليوجههم إلى التفكير بما يفرضه عليهمفي مضمونه الإيحائيمن مواقف ومشاعر على مستوى الممارسة الخاصة في الجانب الذاتي من حياتهم ،وعلى مستوى العلاقات في الجانب الاجتماعي العملي من سلوكهم ،لأن الإيمان يمثل المنهج الكامل في حركته في طبيعة الشخصية المؤمنة في الداخل والخارج ،ما يفرض على المؤمن أن يستثيره في نفسه في كل مجالات حياته .
{لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} لأن مسألة العداوة تختزن في داخلها الحقد في الشعور والرغبة في التدبير ،والتخطيط للهلاك والعمل على إرباك الوضع كله من حولكم ،فليس من الطبيعي أن توالي عدوك وتمحضه المودة ،فالموالاة تعبّر عن الانفتاح عليه في الموقف ،والابتعاد عن الحذر منه ،والاستسلام العفويّ لمخططاته ،والاسترخاء أمامه ،كما أن المودة له توحي بالعاطفة التي تأكل كلَّ معاني الرفض الداخلي ،وتسقط الحواجز النفسية ضده ،وتؤدي بالتالي إلى الاستخفاف بالعناصر المهمة المتصلة بمضمون الفواصل العقيدية والفكرية والعملية ،ما يبتعد المؤمن معه عن الصلابة في حراسة الخط الذي يميزه عن خطوط الآخرين ،عندما يهدم السدود الفاصلة بينه وبينهم .وفي ضوء ذلك ،لا تكون العداوة حالةً نفسيةً ذاتيةً رافضةً ،بل تكون حالةً فكريةً تمتزج بالشعور الرافض الذي يتحول إلى رفضٍ للفكرة التي ترفض فكرةً أخرى ،في عملية رفض العلاقة بالذات التي تمثل التجسيد الحيّ للفكرة ،ما يجعل من الموقف العدائي عملية رفضٍ لحركية الفكرة من خلال الذات .
وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ} فليس هناك أيَّة قاعدةٍ فكريةٍ وروحيةٍ وعمليةٍ تربطهم بكم ،فمن أين جاء أساس المودة التي لا بد من أن ترتكز على التوافق في الفكر والموقف{يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} في ما يمثّله ذلك من موقفٍ عدواني عنيفٍ ،يتميّز بالقهر الوحشي الذي لا ينسجم مع أيَّة حالةٍ شعوريةٍ إيجابيةٍ ،بل يجتذب المعنى السلبي من خلال ثأر الإنسان لكرامته ولعلاقته بأرضه ،ولالتزامه بإيمانه .ولم يكن هذا الإخراج القهري المتعسف ناتجاً من حالةٍ ذاتيةٍ تؤدي إلى أن يختلف الناس مع بعضهم البعض ،فيكون ردُّ الفعل قتالاً أو تهجيراً أو نحو ذلك ،بل كان ناتجاً عن الخط الإيماني التوحيدي الذي يضادّ الخط الكافر الإشراكي{أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} فذلك هو سر المشكلة المعقدة فيما بينكم وبينهم ،فكيف تغفلون عن ذلك وتستهينون به ،في الوقت الذي لا يتناسب فيه موقفكم الموالي لهم مع خطّ الجهاد الذي ينطلق على أساس مواجهة كل القوى المعادية بالرفض القويّ الذي يعمل على كسر شوكة العدو ،وتدمير مواقعه ومواقفه ،فلا تسيروا في هذا الاتجاه المنحرف ،{إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً في سَبِيلِي} من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا ،ويكون الدين كله لله{وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي} بالعمل على ما يرضاه الله في مواقع طاعته فإن الذي يتحرك في مسيرة الجهاد ويطلب رضا الله ،لا يوالي أعداءه ،ولا يتحرك في مواقع سخطه ..{تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} حتى لا يظهر موقفكم للمؤمنين ،وتقعوا في الحرج من ذلك ،ولهذا فإنكم تتجنبون الموقف العلني ،وتلجأون للموقف السري ،{وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ} فإذا كنتم تستخفون من الناس فكيف تستخفون من الله الذي يعلم السر والعلانية ،{وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ} لأن السبيل السويّ يفرض على الإنسان أن تكون حركته في خط إيمانه ،وأن يكون موقفه في مصلحة قضيته ،وأن يكون سره وعلانيته في الحق سواء ،وبذلك يكون الموقف الذي اتخذتموه منحرفاً عن خط الاستقامة .