قوله:{هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر} قال المفسرون: نزلت هذه الآية في بني النضير .وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه ،وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ،فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وظهر على المشركين قالت بني النضير: والله إنه النبي الذي وجدنا نعته في التوراة لا ترد له راية .فلما غزا أحدا وهزم المسلمون نقضوا العهد وأظهروا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صالحهم على الجلاء من المدينة .
وذكر محمد بن إسحاق في كتابه السيرة: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في ديه ذينك القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري ،للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما .وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف ،فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية ذينك القتيلين قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه ،ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم- فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه .فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم فقال: أنا لذلك فصعد ليلقي عليه صخرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي ،( رضي الله عنهم ) فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم فقام وخرج راجعا إلى المدينة .
فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه فقال: رأيته داخلا المدينة .فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم ،فقذف الله في قلوبهم الرعب ،ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكفّ عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة - يعني السلاح - ففعلوا فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل .فكان الرجل منهم يهدم بيته على نجاف{[4494]} بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به ،فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام{[4495]} .
قوله:{لأول الحشر} يعني أخرجهم عند أول الحشر فكان هذا أول حشر حشروا في الدنيا إلى الشام ،فقد كانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط .وهم أول من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام .قال ابن عباس: من شك في أن أرض المحشر ههنا الشام فليقرأ هذه الآية{هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر} قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم"اخرجوا "قالوا: إلى أين ؟قال:"إلى أرض المحشر "وقيل: آخر حشرهم حشر يوم القيامة ،لأن المحشر يكون بالشام .
قوله:{ما ظننتم أن يخرجوا} ما ظن المسلمون أن تخرج يهود بهذه السهولة في هذه المدة القصيرة من محاربتهم وهي ستة أيام ومع تمكنهم في حصونهم المنيعة{وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله} ظنت يهود - واهمين - أن حصونهم القوية البنيان تمنعهم من أمر الله إن نزل بهم بأسه .وقد كان المنافقون بقيادة عبد الله بن أبي ابن سلول يحرّضونهم على الثبات في وجه المسلمين وقد وعدوهم بالتأييد والمناصرة لكنهم سرعان ما تخلوا عنهم فلم يغنوا عنهم من بأس الله شيئا{فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} أي أتاهم من بأس الله وشديد بلائه ما لم يخطر لهم على بال{وقذف في قلوبهم الرعب} ألقى الله في قلوبهم الجزع والفزع وغشيهم من الترعيب والهلع ما غشيهم .
قوله:{يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} كان المسلمون يهدمون ما يليهم من حصون يهود للدخول عليهم .وكان اليهود يخربونها من داخلها قبل رحيلهم عنها .فكان أحدهم ينظر إلى ما يستحسنه في بيته من الخشبة أو العمود أو الباب فينزعه .فاحتملوا من أموالهم وأمتعتهم ما أقلّته افبل فكانوا بذلك يهدمون بيوتهم عن نجاف أبوابها فيضعونها على ظهور الإبل ثم ينطلقون بها راحلين .وذلكم تخريبهم بيوتهم بأيديهم .
قوله:{فاعتبروا ياأولي الأبصار} يعني اتعظوا يا أهل العقول والنهى واعتبروا مما حل بهؤلاء الظالمين ،إذ لم تغنهم حصونهم المنيعة شيئا من بأس الله لما نزل بهم .وقد هدموا بيوتهم فخربوها بأيديهم تخريبا .والله عز وعلا ولي عباده المتقين فهو ناصرهم ومؤيدهم ومخزي الظالمين .