تذكير الله للنبي عيسى( ع ) بنعمه عليه
يذكّر الله تعالى في هذه الآيات ،نبيّه عيسى بن مريم( ع ) بجملة من نعمه الجليلة ،{إِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ} والّتي تتراوح بين صورة المعجزة من جهة ،ولطف الرحمة من جهة أخرى ،وتسديد الموقف بالتأييد والتوفيق والنصرة من جهة ثالثة ،{إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي} وليس تذكير الله تعالى أنبياءه من قبيل التذكير الرافع للنسيان أو الغفلة ،لأنَّ هذا مما يتعارض مع عصمتهم ومنزلتهم ودورهم الريادي في الحياة ،وإنَّما هو من قبيل التقرير والتسجيل لبيان هذه الحقيقة لأممهم الّتي رفعتهم إلى مقام الألوهيّة أو ما يقرب من ذلك ،كما حدث مع عيسى( ع ) ،حيث قال النَّاس بألوهيته ،فأراد اللهسبحانه وتعالىأن يبيّن لهم ،بأسلوب غير مباشر ،وذلك من خلال الحديث الَّذي أثاره مع عيسى( ع ) ،أنه لا يملك من أمره شيئاً ،بل كل ما لديه من طاقات وأعمال ومعاجز ،هي من نعم الله تعالى عليه ،وأنَّه ليس أكثر من رسول لهتعالىإلى النَّاس ،فلا صفة له إلاَّ صفة الرسالة ،ولا طاقة له إلاَّ الطاقة الّتي وهبها الله له .وقد تقدم الحديث عن بعض هذه الأمور في سورة آل عمران ،من تكليمه النَّاس في المهد وفي حالة الكهولة ،وقيامه بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله .وجاءت الآيات هنا ،لتُثير تأييده بروح القدس ،في ما يُمثِّله ذلك من قوّةٍ ٍروحيّةٍ خفيّةٍ ،كانت بمثابة الأساس لكل ما حدث له ،وصدر عنه ،لأنَّ الطاقة البشريّة في طبيعتها ،لا تملك القيام بذلك كله بعيداً عمّاً يمنحه الله لها من تأييدٍ روحيٍّ معجز ،وقد يكون تصوّر المعنى المقصود من روح القدس غامضاً بعض الشيء ،لأنَّ ذلك ليس من الأمور الماديّة الّتي تدخل في نطاق التصوّر البشري ،ولكنّنا نعرفمن خلال معطيات القرآن الكريمأنه يمثل لوناً من ألوان اللطف الإلهي الَّذي تتمثَّل فيه القدرة المطلقة ،الّتي بها تتميّز الأشياء بخصائصها ،وتُبدع الأمور بطاقاتها .فمن ذا الَّذي يستطيع أن يكلم النَّاس في المهد من خلال التكوين البشري الذاتي في ما يملكه البشر من خصائص القدرة على التكلم الواعي الناضج على أساس النمو الِّذي يحتاج إلى مراحل متقدمة من العمر والتربية والتعليم ؟ليس هناك إلاَّ القدرة الإلهيّة الّتي تمنح الأشخاص بعضاً من لطفها الَّذي به يقول للشيء:{كن فيكون} فلا مجال لوجود أجزاء إلهيّة في ما يتصوره النَّاس من أضاليلهم ،بل كل ما هناك ،هو مظهر القدرة بالطريقة المألوفة أو غير المألوفة .
وانتهت الآية إلى إبراز الدعم والتأييد الإلهي القوي لعيسى( ع ) في مواجهة «بني إسرائيل »{وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إِسْرَائيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} حيث كفّ شرّهم عنه ،لا سيما الكفَّار منهم ،{فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} رموه بالسحر على عادتهم مع الأنبياء الآخرين ،فهم لا يناقشون الأفكار الّتي يثيرونها في حياتهم ،ولا يتدبرون المعاجز الّتي يقدمونها إليهم ،بل يرفضون ذلك كلّه بما اعتادوه من كلمات غير مسؤولة ،ولكنَّ الله قهرهم بقوّة القدرة الّتي أيّد بها رسوله ،