)وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) ( البقرة:234 )
التفسير:
قوله تعالى:{والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن}؛{الذين} اسم موصول مبتدأ في محل رفع ؛وجملة:{يتوفون} صلة الموصول ؛وجملة{يتربصن} خبر{الذين}؛وفيها أشكال ،حيث لم يوجد رابط يربطها بالمبتدأ ؛لأن قوله تعالى:{يتربصن بأنفسهن} ليس فيها ضمير يعود على{الذين}؛فاختلف الناس في كيفية الربط بين المبتدأ ،والخبر ؛فقال بعضهم التقدير: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بعدهم ؛وعلى هذا يكون الضمير: في «بعدهم » هو الرابط الذي يربط بين المبتدأ ،والخبر ؛وقال بعضهم: التقدير: وأزواج الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن ؛فقدر المبتدأ ؛هذان وجهان ؛ولكن الأول أيسر من الثاني ،وأقرب .
وقوله تعالى:{يتوفون} بضم الياء - أي يتوفاهم الله - ؛وذلك بقبض أرواحهم عند الموت ؛وقد أضاف الله التوفي إليه تارة ،كما في قوله تعالى:{الله يتوفى الأنفس حين موتها} [ الزمر: 42]؛وإلى ملك الموت تارة ،كما في قوله تعالى:{قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} [ السجدة: 11]؛وإلى رسله - وهم الملائكة - تارة ،كما في قوله تعالى:{حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} [ الأنعام: 61فإضافتها إلى الله ؛لأنها بأمره ؛وإلى ملك الموت ؛لأنه الذي يقبض الروح ؛وإلى الرسل ؛لأنهم يقبضونها من ملك الموت يصعدون بها إلى السماء ؛ولذلك بني الفعل في الآية لما لم يسم فاعله ؛ليشمل كل ذلك .
وقوله تعالى:{منكم}: الخطاب للناس جميعاً ؛لأن الله سبحانه وتعالى يقول:{يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} [ النساء: 174]؛فالخطابات بصيغة الجمع لجميع من نزل إليهم القرآن .
وقوله تعالى:{ويذرون أزواجاً} أي يتركون أزواجاً بعدهم ؛و{أزواجاً} جمع زوج - وهو من عقد له النكاح من رجل ،أو امرأة - ؛إلا أن الفرضيين - رحمهم الله - اصطلحوا على أن الرجل يقال له: زوج ؛والمرأة يقال لها زوجة من أجل التمييز بينهما في قسمة الميراث .
وقوله تعالى:{يتربصن بأنفسهن} أي ينتظرن ،ويَحبسن أنفسهن عن الزواج ؛لأن المرأة بطبيعتها تطلب النكاح ؛فقيل لها: تربصي بنفسك ؛انتظري ،مثلما أقول: ارفق بنفسك - أي هوِّن على نفسك - ؛وما أشبهها ؛وأما قول من قال: إن «أنفسهن » توكيد للفاعل في{يتربصن} زيدت فيه الباء ،وجعل معنى الآية: يتربصن أنفسُهن ؛فهذا ليس بصحيح ؛لأن الأصل عدم الزيادة ؛ولأن مثل هذا التعبير شاذ في اللغة العربية ؛فلا يحمل كلام الله على الشاذ ؛وعلى هذا فالمعنى الصحيح: أن ينتظرن بأنفسهن فلا يعجلن .
قوله تعالى:{أربعة أشهر وعشراً}؛{أربعة} نائبة مناب الظرف ؛لأنها مضافة إليه ؛وهي متعلقة ب{يتربصن} .
قوله تعالى:{وعشراً} أي وعشر ليال ؛والمراد: عشرة أيام لكن يعبر عن الأيام بالليالي ،كقوله تعالى:{إن لبثتم إلا عشراً * نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوماً} [ طه 103 ،104] فتبين أن المراد ب «العشر » هنا الأيام ؛وهنا قوله تعالى:{وعشراً} يعني عشرة أيام ؛ولكن قال أهل اللغة: إن العرب يعبرون بالليالي عن الأيام ؛لأنها قبلها .
قوله تعالى:{فإذا بلغن}: الضمير يعود على الأزواج المتوفى عنهن أزواجهن ؛و{أجلهن} أي مدة العدة ؛وأجل كل شيء: غايته ؛أي الغاية التي تنتهي بها العدة ؛وهي هنا أربعة أشهر وعشراً .
قوله تعالى:{فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف}: الخطاب لأولياء النساء ؛فلو أرادت المرأة أن تعمل شيئاً محرماً عليها في هذه العدة لزم وليها أن يمنعها ؛وإذا تمت العدة فلا جناح على وليها أن يمكنها من أن تفعل في نفسها ما تشاء - لكن بالمعروف - .
قوله تعالى:{والله بما تعملون خبير} ،أي عليم ببواطن الأمور ؛فالخبير أخص من العليم .
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها ؛لقوله تعالى:{يتربصن بأنفسهن}؛لأنها خبر بمعنى الأمر .
2 - ومنها: وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها سواء كانت صغيرة ،أم كبيرة ؛لقوله تعالى:{أزواجاً} ،وأطلق ؛فأما الكبيرة فتقوم بما يلزمها من الإحداد ؛وأما الصغيرة فالمخاطب بذلك وليها يجنبها ما تتجنبه المحادة الكبيرة .
3 - ومنها: وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها سواء دخل بها ،أم لم يدخل ؛لقوله تعالى:{أزواجاً}؛لأن الزوجة تكون زوجة بمجرد العقد بخلاف الطلاق ؛فإن الطلاق قبل الدخول ،والخلوة لا عدة فيه ؛لقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [ الأحزاب: 49] .
4 - ومنها: وجوب انتظار المرأة بنفسها مدة العدة بحيث لا تتزوج ،ولا تتعرض للزواج ؛لقوله تعالى:{يتربصن بأنفسهن} ،كما تقول: تربص بكذا ،وكذا - يعني لا تتعجل .
5 - ومنها: أن السرية لا تلزمها عدة الوفاة ؛لأنها ليست بزوجة .
6 - ومنها: أنه لو تبين عند الوفاة أن النكاح باطل لم تعتد بالوفاة ،مثل أن يتبين عند وفاته أنها أخته من الرضاع ؛لأنه تبين أن النكاح باطل - وجوده كالعدم - .
7 - ومنها: أن عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام سواء كانت تحيض ،أو لا تحيض ؛ويستثنى من ذلك الحامل ؛فعدتها إلى وضع الحمل ؛لقوله تعالى:{وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [ الطلاق: 4]؛ولا عدة للمتوفى عنها زوجها سوى هاتين .
8 - ومنها: حكمة الله بتقدير عدة المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر ؛وعلق الحكم بهذا العدد ،ولم يعلقه بالأقراء - كما في المطلقات - ؛لأن أقل ما يمكن أن يتحرك فيه الجنين أربعة أشهر ؛وزيدت العشرة للاستثبات ؛هكذا قال بعض أهل العلم ؛ولكن عند التأمل يتبين لك ضعف هذا التعليل ؛لأن المرأة المتوفى عنها زوجها قد لا يدخل بها ؛وقد تكون صغيرة لا يمكن أن تحمل ؛وقد تكون كبيرة آيسة من الحمل ؛ثم الاحتياط بأربعة أشهر وعشر: يمكن العلم ببراءة الرحم قبل هذه المدة ؛فتبين بهذا أن الحكمة شيء آخر ؛وعندي - والله أعلم - أن الحكمة أنهم لما كانوا في الجاهلية تبقى المرأة حولاً كاملاً في العدة بعد موت زوجها ،وتبقى في بيت صغير ،كالخباء لها ،ولا تمس الماء أبداً ؛تأكل ،وتشرب حتى لا تموت ؛وتبقى بعرقها ،ورائحتها ،وحيضها ،ونتنها لمدة سنة كاملة ؛فإذا تمت السنة أتوا لها بفأرة ،أو عصفور ،فقالوا لها: «امحشي به فرجك » ؛فقلّ ما تتمسح بشيء إلا مات من الرائحة الكريهة ؛مدة سنة ربما يأتيها الحيض اثنتي عشرة مرة وهي في هذا المكان ؛ثم إذا تم الحول أتوا لها ببعرة ؛فأخذت البعرة ،ورمت بها ،كأنها تقول: كل ما مر عليّ فهو أهون من رمي هذه البعرة ؛فجاء الإسلام ،وأبدل الحول بأربعة أشهر ؛لأن أربعة أشهر: ثلث حول ؛وعشرة أيام: ثلث شهر ؛والثلث كثير ؛فأُتي من الحول بثلثه ،ومن الشهر بثلثه ؛فإن تبينت هذه الحكمة ،وكانت هي مراد الله فهذا من فضل الله ؛وإن لم تتبين فإننا نقول: الله أعلم بما أراد ؛وهذا كغيرها من العبادات ذوات العدد التي لا نعلم ما الحكمة فيها .
9 - ومن فوائد الآية: أن العدة إذا انتهت جاز للمرأة أن تفعل كل ما كان معروفاً من تجمل ،وخروج من البيت ،وغير ذلك ؛لقوله تعالى:{فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم} .
10 - ومنها: أن الأولياء مسؤولون عن مولياتهم ؛لقوله تعالى:{فلا جناح عليكم} إشارة إلى أن الرجال لهم ولاية على النساء ؛فيكونون مسؤولين عنهن .
11 - ومنها: اعتبار العرف ؛لقوله تعالى:{بالمعروف}؛والعرف معتبر إذا لم يخالف الشرع ؛فإن خالف الشرع فلا يعتبر .
12 - ومنها: إثبات علم الله عزّ وجلّ بالظاهر ،والخفي ؛لقوله تعالى:{والله بما تعملون خبير}؛والخبير هو العليم ببواطن الأمور ؛ومن كان عليماً ببواطن الأمور كان عليماً بظواهرها من باب أولى .
13 - ومنها: التحذير من مخالفة هذا الحكم ؛لقوله تعالى:{والله بما تعملون خبير} أي احذروا من مخالفته ؛فإن الله بما تعملون خبير .