والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير ( 234 )
في الآيات السابقة بين سبحانه إنشاء الزواج ، و ما ينبغي أن يكون في الاختيار وما يجب ، ثم بين العشرة الزوجية ، ثم بين الفراق بين الزوجين والأحكام التي تتبع عند الافتراق ، وأن الزواج إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، وأنه إذا لم يكن واحدا منهما فهو الكفر في الإسلام ، أو الجهل بأحكامه أو الزيغ عن قانونه ، و الخروج من ربقته ونظامه ، ثم أشار سبحانه إلى حقوق ثمرة الزواج في حالي الوفاق والخلاف ، وأنها حقوق مقرة في الحالين .
و بعد ذلك بين الحكم إذا فرق بين الزوجين الموت ، فذكر القيود المعقولة التي تقيد بها المرأة ، وبعدها تكون الحرية التي يكون من آثارها اختيار الزوج الكفء ، فقد قال تعالى:
[ و الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا] في هذه الآية الكريمة يتبين عدة المتوفى عنها زوجها ، وهي أربعة أشهر قمرية وعشرة أيام . وعبر سبحانه عن العشر بما يدل على أن المعدود مؤنث ، إذ إنه حذف التاء ، فدل على أن المراد عشر ليال والمؤدى واحد ، ولكن التعبير بالليالي فيه فائدة أكبر من التعبير بالأيام؛ لأن فيه إشارة إلى أن تقدير الأشهر بالقمرية كما نوهنا ، لأن الليالي هي التي تعرف فيها أحوال القمر وأدواره ، فكان التعبير بها توجيها لما يكون فيها ، وهو القمر بأطواره وأحواله .
و قبل أن نخوض في حكمة تقدير عدة الوفاة ذلك التقدير ، وما يعارض ظاهرها في سورة الطلاق ، وما كان عليه العرب من عادات في حداد المرأة على زوجها ، قبل ذلك نذكر بعض مباحث لفظية في تلك الجملة السامية .
و أول تلك المباحث اللفظية ، هو في كلمة [ يتوفون] بالبناء للمجهول ، ولم تقرأ غير ذلك ، لأن الفعل متوفى متعد ، فالله سبحانه وتعالى يقول:[ الله يتوفى الأنفس حين موتها . . .42]( الزمر ) فإذا لم يذكر الفاعل بني للمفعول .
و ثانيها:في كلمة "يذرون"معناها يتركون ، وقد ادعى علماء النحو أنه من الأفعال التي مات ماضيها ، ولم يعرف إلا فعل المستقبل لها ، مضارعا كان أو أمرا ، ولكن وجدنا في أساس البلاغة للزمخشري ما دل على أن ماضيها حي وليس بميت ، فقد جاء فيه ما نصه:( ذره واحذره والعرب أماتت المصدر منه فيقولون:ذر تركا ، وإذا قيل لهم:ذروه . قالوا:وذرناه ){[326]} . ونرى من هذا أن ذلك العالم اللغوي العظيم لم يعترف إلا بأن العرب أماتوا المصدر ، أما الماضي فلم يميتوه ، وذكر الاستعمال الذي يدل على حياته ، فقال:( إنهم إذا قيل لهم:ذروه . قالوا:وذرناه ) .
و ثالث المباحث اللفظية:في كلمة "أزواج"وهي جمع لزوج ، وهو كلمة تفيد بأصل معناها الدلالة على اثنين اتحدا في الخواص والصفات وكل المشخصات حتى صار كل واحد منهما صورة كاملة من الثاني ، و كأنه هو في شخصه ، ولذلك أطلق على كل واحد منهما بأنه زوج ، وأطلق على كل واحد من الرجل والمرأة بعد ذلك العقد المقدس بأنه زوج ، لأنه ثاني اثنين قد امتزجت حياتهما ، وتلاءمت شخصياتهما حتى صار كل واحد منهما كأنه صورة من الآخر ، وكأنه شخص في كونه ووجوده لما ارتبطا به من حياة ، ولكمال الخلطة بينهما ، ولتماثل الحقوق والواجبات عليهما ولاتحاد شخصيتهما بذلك الزواج الموحد بينهما .
و رابع المباحث اللفظية:في كلمة "يتربصن"والتربص معناه الانتظار ، فقد قال تعالى:[ فتربصوا به حتى حين 25]( المؤمنون ) وقال تعالى:[ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر . . .98]( التوبة ) وقال تعالى:[ أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون 30]( الطور ) وفي كل هذه الآيات الكريمة كان التربص معناه الانتظار مع الترقب ، والتربص من المتوفى عنها زوجها في هذا المعنى تقريبا .
و "يتربصن"هي خبر في معنى الطلب فالمعنى ليتربصن ، كقوله تعالى:[ و الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين . . .233]( البقرة ) وفي ذلك إشارة إلى أن التربص أمر نظري يتلاقى مع الأمر الشرعي ، فإن الحرة الكريمة لا ترضى لنفسها ولا ترضى معها أسرتها أن تتزوج فور وفاة زوجها ، أو بعدها بمدة قليلة ، فإن ذلك أمر مستهجن في الفطرة السليمة ، وفي الشرع الحكيم ، وفي عرف الناس ، ولا ترضى العقول به والمدارك الصحيحة .
و كان من ذلك التعبير قوله تعالى:[ بأنفسهن] فيه إشارة إلى أن ذلك التربص فيه صيانة لأنفسهن ، وحفظ لكرامتهن ، ودفع لمعنى الامتهان والعار الذي يلحق المرأة من أن يموت ضجيعها ، فلا تلبث إلا قليلا بعد أن يسجى ويدفن ، حتى تعرض نفسها طالبة الأزواج ، كأنه ليس المتوفى عشيرا أليفا يستحق الحداد .
و قد حد الشارع للمتوفى عنها زوجها عدة هي في جملتها أكثر من عدة المطلقات ، لأن تلك ثلاثة قروء تجيء عادة في نحو ثلاثة أشهر . وهنا يرد سؤالان:
أولهما:لماذا كانت العدة في المتوفى عنها زوجها بالأشهر دون الحيض ، فلم تجعل أربع حيضات بدل ثلاثة ؟ . . ولماذا كانت الزيادة ؟
و لم نجد أحدا تصدى لبيان الحكمة في جعلها بالأشهر ، ويبدو لنا أن الحكمة التي تدركها عقولنا – وإن كانت الحكمة الشرعية السامية قد تعلو على مداركنا – هي أن عدة الوفاة تكون للمدخول بها وغير المدخول بها ، وللصغيرة والكبيرة ، والأساس فيها هو الحداد على الزواج السابق الذي انتهى بوفاة أحد ركنيه ، فلزم أن يكون بأمر يشترك فيه الجميع مادام السبب واحدا في الجمع ، وفوق ذلك إن العدة في الوفاة لو قدرت بالحيض ، وهو أمر لا يعلم إلا من جهة المرأة ، فربما تدفعها الرغبة في الزواج إلى الكذب فتدعيه وهو لم يقع ، وفي المطلقات العدة حق للمطلق فيستطيع أن ينكر عليها ، أو يظهر كذبها ، وهي تخشى صولته ، فتبتعد ما أمكن من المراء ، أما في حال الوفاة فصاحب الحق الأول قد مات وصار الحق لله خاصا ، فحد ذلك الحق بالأشهر والأيام حتى لا يكون مساغا للكذب وادعاء ما لم يحصل ، لأن الأيام والأشهر تعرف بالكتاب والحساب ، وليست أمرا يعرف من جهتها فقط .
أما الجواب عن الأمر الثاني وهو:لماذا كانت العدة بالوفاة أكثر في الجملة من العدة الناشئة عن الطلاق ؟ فيبدو بادي الرأي ، من الفرق بين حال الطلاق وحال الوفاة ، أن الطلاق نتيجة شقاق ، فالحداد على الزوج الذي ينشئه ليس قويا ، ومعنى براءة الرحم وإعطاء الزوج فرصة للرجعة يكون أوضح في معنى العدة ، ويكفي لذلك نحو ثلاثة أشهر ، أما حال الموت ، فإن مرارة الفراق فيها أوضح وأشد ، ومعنى الحداد يغلب فيها معنى براءة الرحم ، ولذلك تجب على المدخول بها وغير المدخول بها ، وإن الشارع قد جعلها لذلك أطول من عدة الطلاق ، وإن الشارع الحكيم قد خفف من حدة ما كانت تعمله النسوة الجاهلية ، فقد كانت المرأة في الجاهلية تغلق على نفسها أضيق مكان في مسكنها وتقضي فيه سنة كاملة ، حدادا على زوجها ، فجاء الإسلام ، وخفف عليها وجعلها أربعة أشهر وعشرا ، ولنذكر لك ما كان في الجاهلية وما كان في الإسلام ، كما روي في صحاح السنة:
فقد روى البخاري ومسلم عن زينب بنت أم مسلمة أنها قالت:"دخلت على أم حبيبة حين توفى أبو سفيان ( أبوها ) فدعت أم حبيبة بطيب فدهنت منه جارية ، ثم مست بعارضيها ، ثم قالت:والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر:"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا "{[327]} ، قالت زينب:سمعت أمي أم سلمة تقول:جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:يا رسول الله إن ابنتي توفي زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا"مرتين أو ثلاثا . ثم قال:"إنما هي أربعة أشهر وعشرا ، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول ؟ قال الراوي{[328]} قلت لزينب:ما ترمي بالبعرة على رأس الحول ؟ فقالت زينب:كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا{[329]}ولبست شر ثيابها ، ولم تمس طيبا حتى تمر بها سنة ، ثم تخرج فتعطى بعرة ، فترمي بها ، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره "{[330]} .
و ترى من هذا أن الإسلام قد ألغى تلك العادات الجاهلية ، وقصر أمد الحداد على الوفاة ، فجعله أربعة أشهر وعشرا بدل سنة .
و قد يرد سؤال آخر:لماذا حد العدد بأربعة أشهر وعشرا ؟ وإن تقدير الأعداد كما يقرر الفقهاء أمر توفيقي خالص لا يجري فيه القياس ، ولكن ليس معنى ذلك أنه لا حكمة فيه ، وإن الحكمة يقررها العلماء في أمرين:
أولهما – أن الأشهر الأربعة هي التي يظهر فيها الحمل ويستبين ، وقد جعلت العشر بعدها للاحتياط ، وتعرف أعراضه وظواهره ، وذلك لأنه لما وكل أمر براءة الرحم إلى مدة ، لوحظ فيه المدة التي فيها يعرف ويستبين وتظهر أعراضه .
ثانيهما – أن مدة أربعة الأشهر هي المدة التي قررها الشارع أقصى مدة للحرمان من الرجال ، ولذلك جعل الإيلاء مدته أربعة أشهر ، بحيث إذا حلف الرجل ألا يقرب امرأته أربعة أشهر ، ومضى في يمينه وانتهت المدة طلقت منه ، فكان من التنسيق بين الأحكام الشرعية أن تجعل مدة الإحداد على الزواج في حدود هذه المدة ، ومقاربة لها في الجملة ، وليس من المعقول أن يعاقب الشارع الرجل إذا أصر على هجر زوجه بالفراق إذا أصر عليه أربعة أشهر ، وفي الوقت نفسه يلزمها بالحداد مدة أطول من ذلك ، بل ينبغي أن تكون مدة الإحداد حول هذه المدة أيضا .
[ فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف] بينت الجملة السامية السابقة مدة العدة للمتوفى عنهن أزواجهن ، وفي هذه الجملة الكريمة يبين سبحانه وتعالى انتهاءها وما يترتب على الانتهاء ، والمعنى:إذا انتهت المدة المقررة للتربص ، فلا إثم على الناس فيما يفعلن في أنفسهن من زينة واستعداد للزواج والزواج بالفعل ، ونرى في التعبير الفعل المباح منسوبا لهن ، ونفي الإثم عن الناس المتصلين بهؤلاء المتوفى عنهن أزواجهن ، وفي ذلك دلالة على أمرين:
أحدهما:أن المرأة تباح لها الزينة بالمعروف ، أي بالأمر المعقول الذي تقره العقول ، وتدركه الأفهام ، وتعرفه أهل المدارك السليمة والأذواق الدقيقة المحكومة بشكائم الأخلاق ، يدخل فيما يفعلن بأنفسهن الزواج ، فلها اختيار الزوج ، وتولي العقد ، بشرط أن يكون ذلك في دائرة العرف والتقيد بالكفاءة ، وألا تجلب عارا على أسرتها وذويها .
وثانيهما:أن نفي الإثم عن الجماعة فيما يفعلن بأنفسهن بالمعروف غير المستنكر ، دليل على أن الجماعة الإسلامية متعاونة متآزرة متماسكة بالأمر المعروف والنهي عن المنكر ، وأن على كل امرئ أن يصلح من شأن أخيه ، ويقومه بالمعروف ، ويبين له أوامر الشرع وحكم الله تعالى ، و لا تذهب عنه هذه المسؤولية حتى يكون عمل من يكون ذا صلة به في دائرة الشرع والخلق القويم .
و قبل أن نترك الكلام في عدة المتوفى عنها زوجها ، نشير إلى موضوع يتصل به ، أو هو من لبه ، وهو مقدار شمول هذا النص للمعتدات من وفاة:أيشمل الحامل وغير الحامل ، أم يختص بغير الحامل فقط ؟ لقد ورد في عدة الحامل قوله تعالى:[ و أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن . . .4] ( الطلاق ) وورد في عدة الوفاة هذه الآية الكريمة التي نتكلم في معناها ، وهذان عمومان متعارضان ، أو يبدو في الظاهر أنهما متعارضان .
و قد قال جمهور الفقهاء:إن آية عدة الوفاة التي نتكلم فيها خاصة بغير الحوامل ، فعدة المتوفى عنها زوجها غير الحامل تكون بأربعة أشهر وعشرا ، وعدة الحامل بوضع الحمل عملا بآية الحمل ، فكانت آية الحمل شاملة لحال الطلاق وحال الوفاة ، ويستدل على ذلك الرأي ، بالحديث الشريف ، فإنه روى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفتى سبيعة الأسلمية ، بأنها حلت حين وضع حملها ، وكانت قد ولدت بعد موت زوجها بنصف شهر .
هذا رأي جمهور الفقهاء ، وذلك نظرهم ، ولكن يروى عن علي ، وابن عباس رضي الله عنهما أن المعتدة الحامل من وفاة تعتد بوضع الحمل ، بشرط ألا تقل العدة عن أربعة أشهر وعشر ، أي أنها تعتد بأبعد الأجلين:وضع الحمل ، أو مضي أربعة أشهر وعشر .
و ذلك الرأي إعمالا للآيتين الكريمتين وإمضاء لعمومهما ، وهو يتفق مع الحكمة من إطالة مدة العدة بالنسبة للمتوفى عنها زوجها ، فإنه لا يتفق مع ذلك أن تنتهي العدة بانتهاء الحمل بعد ساعة من الوفاة .
[ و الله بما تعملون خبير] ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذا التذييل ، لبيان أنه سبحانه وتعالى عليم علم الخبير الدقيق الذي لا تخفى عليه خافية ، بما يعملون من تنفيذهم لأوامره ، أو إهمالهم ، وأن من سنته سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أنه بعد كل أمر أو نهي يذكر رقابته سبحانه وتعالى في التنفيذ ، ليعلم من يهمل ومن يطيع ، ولكل جزاؤه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر . و إذا كان المكلف يحس بأنه تحت رقابة الله دائما فإنه يراقب الله في عمله ، ويكون منه الخير واجتناب الشر .