( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( البقرة:257 )
التفسير:
قوله تعالى:{الله ولي الذين آمنوا} أي متوليهم ؛والمراد بذلك الولاية الخاصة ؛ومن ثمراتها قوله تعالى:{يخرجهم من الظلمات إلى النور}؛وأفرد{النور}؛لأنه طريق واحد ؛وجمع{الظلمات} باعتبار أنواعها ؛لأنها إما ظلمة جهل ؛وإما ظلمة كفر ؛وإما ظلمة فسق ؛أما ظلمة الجهل فظاهرة: فإن الجاهل بمنزلة الأعمى حيران لا يدري أين يذهب كما قال تعالى:{أَوَمن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} [ الأنعام: 122] وهذا صاحب العلم ؛{كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} [ الأنعام: 122]: وهذا صاحب الجهل ؛وأما ظلمة الكفر فلأن الإيمان نور يهتدي به الإنسان ،ويستنير به قلبه ،ووجهه ؛فيكون ضده - وهو الكفر - على العكس من ذلك ؛أما ظلمة الفسق فهي ظلمة جزئية تكبر ،وتصغر بحسب ما معه من المعاصي ؛ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن العبد إذا أذنب ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء{[473]} - والسواد ظلمة ،وتزول هذه النكتة بالتوبة ،وتزيد بالإصرار على الذنب ؛فالظلمات ثلاث: ظلمة الجهل ،والكفر ،والمعاصي ؛يقابلها نور العلم ،ونور الإيمان ،ونور الاستقامة .
قوله تعالى:{والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت}؛إذا تأملت هذه الجملة ،والتي قبلها تجد فرقاً بين التعبيرين في الترتيب: ففي الجملة الأولى قال تعالى:{الله ولي الذين آمنوا} لأمور ثلاثة ؛أحدها: أن هذا الاسم الكريم إذا ورد على القلب أولاً استبشر به ؛ثانياً: التبرك بتقديم ذكر اسم الله عز وجل ؛ثالثاً: إظهار المنة على هؤلاء بأن الله هو الذي امتن عليهم أولاً ،فأخرجهم من الظلمات إلى النور ؛أما الجملة الثانية:{والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت}؛ولو كانت الجملة على سياق الأولى لقال: «والطاغوت أولياء الذين كفروا » ؛ومن الحكمة في ذلك: أولاً: ألّا يكون الطاغوت في مقابلة اسم الله ؛ثانياً: أن الطاغوت أهون ،وأحقر من أن يُبدأ به ،ويُقدّم ؛ثالثاً: أن البداءة بقوله تعالى:{الذين كفروا} أسرع إلى ذمهم مما لو تأخر ذكره .
وقوله تعالى:{والذين كفروا} أي كفروا بكل ما يجب الإيمان به سواءً كان كفرهم بالله ،أو برسوله ،أو بملائكته ،أو باليوم الآخر ،أو بالقدر ،أو غيرها مما يجب الإيمان به .
وقوله تعالى:{أولياؤهم} جمع «وليّ » ؛وجمعت لكثرة أنواع الشرك ،والكفر ؛بخلاف سبيل الحق ؛فإنها واحدة ؛وهذه كقوله تعالى:{وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [ الأنعام: 153] .
قوله تعالى:{يخرجونهم}: أتى بضمير الجمع ؛لأن المراد بالطاغوت اسم الجنس ؛فيعم جميع أنواعه .
وقوله تعالى:{يخرجونهم من النور إلى الظلمات}: استُشكل ؛لأن ظاهره: الذين آمنوا أولاً ،فدخلوا في النور ،ثم كفروا ،فخرجوا منه ؛مع أنه يشمل الكافر الأصلي ؛فالجواب: إما أن يراد بهذا من كانوا على الإيمان أولاً ،ثم أُخرجوا كما هو ظاهر اللفظ ؛أو يقال: هذا باعتبار الفطرة ؛فإن كل مولود يولد على الفطرة ؛فكانوا على الفطرة السليمة ،والإيمان ،ثم أخرجوهم ،كقوله ( ص ): «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ،أو ينصرانه ،أو يمجسانه »{[474]} ؛و{من النور إلى الظلمات} سبق الكلام عليها{[475]} .
قوله تعالى:{أولئك أصحاب النار هم فيها}؛المشار إليه الذين كفروا ،ودعاتهم ؛و{أصحاب} جمع صحب ؛و«الصاحب » هو الملازم لغيره ؛فلا يسمى صاحباً إلا الملازم إلا صاحباً واحداً - وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؛فإن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم تطلق على من اجتمع به - ولو لحظة ،ومات على ذلك ؛وهذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ؛فأصحاب النار هم أهلها الملازمون لها ؛وقُدم الجار والمجرور لإفادة الحصر ،ولمراعاة الفواصل .
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: فضيلة الإيمان ،وأنه تحصل به ولاية الله عز وجل ؛لقوله تعالى:{الله ولي الذين آمنوا} .
2 - ومنها: إثبات الولاية لله عز وجل ؛أي أنه سبحانه وتعالى يتولى عباده ؛وولايته نوعان ؛الأول: الولاية العامة ؛بمعنى أن يتولى شؤون عباده ؛وهذه لا تختص بالمؤمنين ،كما قال تعالى:{وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون} [ يونس: 30] يعني الكافرين ؛والنوع الثاني: ولاية خاصة بالمؤمنين ،كقوله تعالى:{ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} [ محمد: 11] ،وكما في قوله تعالى:{الله ولي الذين آمنوا}؛ومقتضى النوع الأول أن لله تعالى كمال السلطان ،والتدبير في جميع خلقه ؛ومقتضى النوع الثاني: الرأفة ،والرحمة ،والتوفيق .
3 - ومن فوائد الآية: أن من ثمرات الإيمان هداية الله للمؤمن ؛لقوله تعالى:{يخرجهم من الظلمات إلى النور} .
4 - ومنها: أن الكافرين أولياؤهم الطواغيت سواء كانوا متبوعين ،أو معبودين ،أو مطاعين .
5 - ومنها: براءة الله عز وجل من الذين كفروا ؛يؤخذ من المنطوق ،والمفهوم ؛فالمفهوم في قوله تعالى:{الله ولي الذين آمنوا} فمفهومه: لا الذين كفروا ؛المنطوق من قوله تعالى:{والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت} ؛وهذا مقابل لقوله تعالى:{الله ولي الذين آمنوا} .
6 - ومنها: سوء ثمرات الكفر ،وأنه يهدي إلى الضلال - والعياذ بالله ؛لقوله تعالى:{يخرجونهم من النور إلى الظلمات}؛وهذا الإخراج يشمل ما كان إخراجاً بعد الوقوع في الظلمات ،وما كان صدًّا عن النور ؛وعلى الثاني يكون المراد بإخراجهم من الظلمات: استمرارهم على الظلمات .
7 - ومنها: أن الكفر مقابل الإيمان ؛لقوله تعالى:{ولي الذين آمنوا والذين كفروا ...} إلخ ؛ولكن هل معنى ذلك أنه لا يجتمع معه ؟الجواب أنه قد يجتمع معه على القول الراجح الذي هو مذهب أهل السنة ،والجماعة ؛لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق ،وقتاله كفر »{[476]} ؛وهذا الكفر لا يرفع الإيمان لقول الله تعالى:{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ...} [ الحجرات: 9] إلى قوله تعالى:{إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} [ الحجرات: 10]؛فأثبت الأخوة الإيمانية مع الاقتتال الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: إنه كفر ؛وانظر إلى الإنسان يكون فيه كذب - وهو من خصال المنافقين ؛ويكون فيه حسد - وهو من خصال اليهود ؛ويكون فيه صدق - وهو من خصال المؤمنين ؛ويكون فيه إيثار - وهو من صفات المؤمنين أيضاً ؛لكن الكفر المطلق - وهو الذي يخرج من الإسلام - لا يمكن أن يجامع الإيمان .
8 - ومن فوائد الآية: إثبات النار ؛لقوله تعالى:{أولئك أصحاب النار}؛والنار موجودة الآن ؛لقوله تعالى:{واتقوا النار التي أعدت للكافرين} [ آل عمران: 131]؛فقال تعالى:{أعدت} بلفظ الماضي ؛والإعداد هو التهيئة ؛وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير حديث أنه رآها: ففي صلاة الكسوف عرضت عليه النار ،ورأى فيها عمرو بن لُحيّ يجر قصبه في النار{[477]} ؛ورأى المرأة التي تعذب في هرة ؛ورأى صاحب المحجن يعذب{[478]} ؛المهم أن النار موجودة أبدية ؛وليست أزلية ؛لأنها مخلوقة بعد أن لم تكن ؛ولكنها أبدية لا تفنى: قال تعالى:{والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور} [ فاطر: 36]؛وذكر تأبيد أهلها في ثلاثة مواضع من القرآن ؛وبهذا يعرف بطلان قول من يقول: «إنها تفنى » ؛وأنه قول باطل مخالف للأدلة الشرعية .
9 - ومنها: أن الكافرين مخلدون في النار ؛لقوله تعالى:{أولئك أصحاب النار}؛والصاحب للشيء: الملازم له .
10 - ومنها: أن الخلود خاص بالكافرين ؛وأن من يدخل النار من المؤمنين لا يخلّد ؛لقوله تعالى:{هم فيها خالدون}؛يعني: دون غيرهم .