[ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور] لقد ذكرنا في الآية السابقة أن الطريق للإيمان هو الكفر بالطغيان ، بالامتناع عن إجابة كل دعاة الشر من كبراء متجبرين ، وحكام مسيطرين بأوهام باطلة ، وهكذا ، وأن من كفر بالطاغوت فقد آوى إلى ركن شديد ، إذ لجأ إلى الله العلي القدير ، ومن بقي تحت سلطان الطاغوت من ملوك عاتين ، ورؤساء ضالين ، فقد أوى إلى ما لا يعتمد عليه؛ لأنه ركن هاو يهوي بصاحبه في نار جهنم .
و الولي فعيل بمعنى فاعل من الولاية . ولقد قال الراغب الأصفهاني:الولاية بالكسر النصرة ، والولاية بالفتح تولي الأمر . وقيل الولاية والولاية واحدة ، نحو الدلالة والدلالة ، والولي والمولى يستعملان في ذلك ، كل واحد منهما في معنى الفاعل ، والولاية كما تطلق بمعنى السلطان تطلق بمعنى المحبة والولاء ، كما في قوله تعالى:[ هنالك الولاية لله الحق . . .44] ( الكهف ) .
و الولي في الآية الكريمة:[ الله ولي الذين آمنوا] يكون بمعنى ناصرهم ، وقد ذكرنا أن الولاية تكون بمعنى النصرة ، وبمعنى المسيطر على نفوسهم وحده الموجه الهادي ، إذ قد سلمت نفوس المسلمين من نزعات الشيطان .
و الظلمات جمع ظلمة ، والمراد بها هنا الضلالة ، ففي الكلام مجاز ؛ لأن المفاسد التي
التي ينشرها الطغيان تظلم بها النفس وتكون في حيرة ، وتنقطع عن سبيل الهداية؛ والنور هو الهدى ؛ لأن الهدى يكشف عن ينابيع الحق والخير في النفس ، وهو سلوك الطريق الموصل إلى ما يسعد الإنسان في الفانية والباقية فهو كالمصباح للمؤمن به يهتدي ، وبه يصل إلى الغاية . والمعنى للجملة السامية:الله سبحانه جل جلاله الذي ليس فوقه شيء وهو القهار فوق كل شيء هو ولي الذين آمنوا أي ناصرهم يأخذ بأيديهم من ضلالات الشرك والأوهام والشهوات ، والذلة والاستعباد ، إلى نور الحق والهداية والتحرر من الأوهام ومن الذلة ، والاستقامة نحو العزة . فهذه الجملة تتضمن ثلاثة أمور:
أولها:نصرة الله القوي القادر ، فلا يصح لمؤمن أن يضعف أمام جبروت الملوك الطغاة أو الجبابرة العتاة ، أو الكبراء المضلين .
و ثانيها:أن الله سبحانه وتعالى هو المسيطر على النفوس يوجه القلوب المؤمنة إلى الحق فيلوح لها نوره ، وتشرق فيها حججه .
و ثالثها:أن الذين يفيض الله عليهم بهذا النور ويؤيدهم بنصره هم الذين ارتضوا الحق بإرادتهم المختارة ، ورفضوا طغيان الكبراء والجبابرة ، وقاوموا نزعات الشيطان ، فإن هؤلاء هم الذين ينصرهم رب العالمين ، ويهديهم بنوره .
[ والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات] المؤمنون يوجه قلوبهم رب العالمين ، وينصرهم بقدرته ، ويعتزون بعزته ، وهو رب العزة ، له الكبرياء في السماوات وفي الأرض ، وهو العلي العظيم . أما الذين كفروا فالطاغوت أي الطغيان بكل أنواعه من جبابرة متحكمين ، وكبراء مضلين ، وأوهام مستحكمة ، وضلالات مسيطرة ، هو الذي ينصرهم ويسيطر على قلوبهم ، والسبب في ذلك أنهم جعلوا الكفر وسترالفطرة هو الذي يتحكم في قلوبهم ، فهم اختاروا تلك الأوهام المضلة ، وولاية الجبابرة المذلة ، واتباع الكبراء المردي ، ففتحوا بسبب ذلك قلوبهم للضلالة تدخل فيها جزءا جزءا حتى أظلمت وبعدت عن نور الفطرة ، وغلقت عليها أبواب الحق ، فلا يدخلها إلا ضلال ، وكأن للقلب بابين:بابا للنور ، وبابا للضلال ، فإن أركست النفس في الشهوات ، فإن باب الضلالة يتسع ويضيق باب الحق حتى يغلق فلا يدخل النور إليها .
و في الجملة السامية الكريمة إشارات بيانية يجب التنبيه إليها:
أولها:أن الله سبحانه وتعالى قال:[ والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت] ففي التعبير بالذين كفروا إشارة بيانية إلى أنهم هم الذين ارتضوا أن يجعلوا الطغيان متحكما في قلوبهم ، إذ كفرهم واستيلاء الشهوات على نفوسهم هو الذي سهل استمراء ولاية الطاغوت عليهم ، وتحكمه فيهم ، وسيطرته على نفوسهم ، وحيث كانت الشهوات مستحكمة فللأوهام سلطان ، وللجبابرة سلطان ، وللكبراء المضلين مكان .
و الثانية:أنه أفرد الطاغوت ، وجمع الأولياء ، ففي ذلك إشارة بيانية إلى أن الطاغوت مهما تتعدد ضروبه ، وأشكاله ومظاهر سلطانه ، فهو نوع واحد ، أساسه أن يتحكم الوهم والهوى والذل والضعف في النفس ولكن مع ذلك يتعدد سلطانه ، فهو مرة يظهر في مظهر ذي سلطان متجبر تخضع الرقابة لطغيانه لتحكم الذلة أو الشهوة المردية في نفوس الذين يتحكم فيهم ، ومرة يظهر سلطان الطاغوت في دعوة إلى الباطل زخرفها تمويه داعية مضل ، وأحيانا تكون في أوهام مسيطرة على الجماعة ، تجعلها تعبد حجرا أصم لا يسمع ولا يبصر ، وعلى ذلك يكون الطاغوت واحدا ؛ لأنه ضلال كيفما كان ، ولكن لتعدد مظاهر سلطانه تعددت ولاياته وكلها لا قوة لها أمام قوة الله سبحانه وتعالى علوا كبيرا .
و الثالثة من الإشارات البيانية:ما تضمنه قوله تعالى:[ يخرجونهم من النور إلى الظلمات] أي الضلالات المردية المختلفة الأنواع ، فإن في ذلك إشارة إلى أن الفطرة في أصلها نور ، ففي الفطرة الإنسانية نور الحق ووجدان الهداية ، والإيمان الفطري ، حتى يكون الضلال إذ تتحكم الأهواء والأوهام وتستخذي النفوس ، فكل مولود يولد على الفطرة{[366]} ، وهي نور ، حتى يكون الضلال بما في النفس من استعداد له مع وجود ذلك النور .
[ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون] الإشارة إلى الذين كفروا ، وفي هذه الإشارة بيان إلى أن أحوالهم التي عرفوا بها من كفرهم ، ورضاهم بالطغيان حاكما عليهم متحكما فيهم مسيطرا على قلوبهم ، هي السبب في ذلك الحكم الخالد عليهم ، وهو أنهم أصحاب النار .
و في التعبير بأصحاب النار إشارة إلى ملازمتهم لها ، وبقائهم فيها ، واختصاصها بهم ؛ لأن أصحاب جمع صاحب ، والصاحب هو الرفيق الملازم الذي اختصصت بصحبته ، فهذا التعبير أفاد ملازمتهم للنار واختصاص النار بهم .
و في قوله تعالى:[ هم فيها خالدون] تأكيد لبقائهم فيها واختصاصها بهم دون غيرها ، ذلك لأن التعبير بالجملة الاسمية فيه تأكيد ، وتكرار المسند إليه بذكر كلمة "هم "، فيه فضل تأكيد ، وتقديم الجار والمجرور وهو "فيها "دليل على اختصاصها بخلودهم فيها فلا منفذ لهم في غيرها؛ لأنهم سدوا على أنفسهم باب النور في الدنيا ، فسدت عليهم أبواب الرحمة في الدنيا والآخرة .