لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ( 256 )
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى أمرين:
أحدهما:المغالبة بين أهل الحق وأهل الباطل ، وأن تلك مشيئته الأبدية الأزلية منذ خلق بني آدم على ذلك التكوين الذي يضم فيه كل آدمي بين جنبيه نزوع الخير ونزوع الشر ، ومنذ قال لآدم وحواء وإبليس:[. . . اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين 36] ( البقرة ) .
الأمر الثاني:هو ما يجري حوله الخلاف بين أهل الحق الذين يستمسكون بالهدى والنور ، وأهل الباطل الذين يستمسكون بالضلالة ، وذلك الأمر هو وحدانية الله سبحانه وتعالى في الألوهية ، وفي الخلق والتكوين ، وفي المشيئة والإرادة ، وفي الذات والصفات:[ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير 11] ( الشورى ) . وإن هذا أمر تقره بداهة العقول ، ولا مجال فيه للريب ، فما كان ينبغي القتال حوله ، ولكن من ضل وغوى أيجوز إكراهه على الدخول في ذلك النور بحكم تلك المغالبة بين الحق والباطل المقررة في هذا الوجود ؟ أجاب الله سبحانه وتعالى عن ذلك السؤال الذي يتردد في قلب كل من يؤمن بالحق ، إذ يكون واقفا أمام حق نير واضح مستبين ، ولجاجة في باطل مظلم ، وقد تكون الهداية أن يقضي على تلك اللجاجة الآثمة .
و قد كان جواب الله العلي القدير ، كلاما محكما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، هو قول الحق:
[ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي] نفت الجملة الأولى من هاتين الجملتين الساميتين الإكراه في الدين ، وبينت الجملة الثانية علة هذا النفي ، وكيف تدرك الأديان ، ومهمة الداعي إليها ، فأما النفي الذي قررته الجملة الأولى فهو يتضمن أمرين:
أحدهما:تقرير حقيقة مقررة ثابتة ، وهو أن الإكراه في الدين لا يتأتى؛ لأن التدين إدراكفكري ، وإذعان قلبي ، واتجاه بالنفس والجوارح بإرادة مختارة حرة إلى الله سبحانه وتعالى ، وتلك معان لا يتصور فيها الإكراه ، إذ الإكراه حمل الشخص على ما يكره بقوة ملجئة حاملة ، مفسدة للإرادة الحرة ، ومزيلة للاختيار الكامل ، فلا يكون إيمان ولا تدين ، إذ لا يكون إذعان قلبي ، ولا اتجاه حر مختار بالنفس والجوارح إلى الله رب العالمين .
الأمر الثاني:الذي تضمنه نفي الإكراه هو النهي عن وقوعه ، فلا يسوغ للداعي إلى الحق أن يكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ؛ لأن الإكراه والتدين نقيضان لا يجتمعان ، ولا يمكن أن يكون أحدهما ثمرة للآخر ، ونتيجة له ؛ لأنه كلما حمل الإنسان على أمر بقوة قاهرة غالبة ازداد كرها له ونفورا منه .
فالنفي عن الإكراه إذن تضمن نفي تصوره في شئون الدين ، ونفي المطالبة به ، أو بالأحرى نهي الداعي إلى الحق عن سلوك سبيله ؛ لأنه ليس سبيل المؤمنين ، وليس من الموعظة الحسنة في شيء:[ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين 125] ( النحل ) .
هذه معاني الجملة الأولى السامية ، أما الثانية وهي:[ قد تبين الرشد من الغي] ، فمعناها قد تبين وجه الحق ولاح نوره ، وتبين الغي ، وهو الضلال والبعد عن محجة الحق ، وطمس معالمه . وهذه الجملة السامية تفيد أمرين كسابقتها:
أحدهما:أن طريق التدين هو بيان الرشد ، وبيان الصواب ، وبيان الضلال في وسط النور ، فمن رأى الحق بينا فقد أدرك السبيل ، وعليه أن يسير فيها ، وليس لأحد أن يحمله حملا ؛ لأنه لا سبب للتدين إلا المعرفة ، بإدراك الحق وغايته ، ومعرفة الباطل ونهايته . وذلك المعنى في مرتبة التعليل للنهي عن الإكراه ونفيه؛ لأنه إذا عرف الحق معرفة مثبتة له بالأدلة القاطعة ، وعرف الباطل معرفة مبينة وجه الضلال فيه ، فقد توافر سبب التدين ، ومن كفر بعد ذلك فعن بينة كفر ، ولا سبيل لهدايته ، وليتحمل مغبة كفره بعد هذه البينات الواضحة الكاشفة .
الأمر الثاني:الذي يدل عليه قوله تعالى:[ قد تبين الرشد من الغي] ، هو بيان أقصى قدر من التكليف للداعي إلى الحق من الرسل ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، فليس على الداعي إلى الحق إلا تكليف واحد ، وهو بيان الرشد من الغي ، فهو لم يكلف حمل الناس على الهدى ، إنما هو مكلف أن يبين الهدى من الضلال ، والهداية بعد ذلك من الله سبحانه وتعالى:[ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء . . . 56]( القصص ) .
و إذا كان الرشد قد تبين من الغي وتميز ، ولم يعد مختلطا به ، بل خلص منه ، وخرج نيرا واضحا ، كما يخرج النور من الظلمة عند انبثاق فجر الحقيقة ، وظهوره ساطعا منيرا هاديا ، إذا كان الأمر كذلك فعلى كل طالب للتدين أن يسلك سبيل الحق ، ومن بقي مترديا في الباطل ، فعليه إثم بقائه ، وما عليك من أمره شيء ، ولذا قال سبحانه:[ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها] الطاغوت أصله مأخوذ من الطغيان ، ويؤدي معنى الطغيان ، وإن اختلف علماء اللغة في أصل اشتقاقه ، وفي وزنه الصرفي .
و الطاغوت يطلق في القرآن على كل ما يطغى على النفس فيسيطر عليها ، أو على العقل فيضله ، أو على الأمة فيتحكم فيها ظلما ، أو على الجماعة فينشر فيها أهواء مردية ، وآراء فاسدة ، ولذلك يطلق الطاغوت على الكاهن ، والشيطان ، وكل رأس للضلال . وقد جاء في تفسير القرطبي:قد يكون واحدا ، قال تعالى:[ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به . . .60] ( النساء ) وقد يكون جمعا ، قال الله تعالى:[ أولياؤهم الطاغوت . . .257] ( البقرة ) .
و ما المراد بالطاغوت هنا ؟ الظاهر أن الطاغوت هو كل طغيان يطغى على النفس أو العقل أو الجماعة ، فيتسلط عليه ، ويمنعهم من اتباع الحق من زعماء يقودونها إلى الضلال ، أو ملوك يسوقونها إلى الباطل سوقا . ولعل أظهر معاني الطاغوت أن يفسر بالملوك المتحكمين والكبراء المتجبرين الذين يفتنون الناس عن دين الحق ، ويكرهونهم على اعتناق الباطل . وقد سوغ لنا استظهار ذلك ما جاء من نفي الإكراه في الدين سابقا لهذه الجملة السامية ، وما سيق بعد ذلك من قصة ملك متجبر يريد أن يتحكم في عقائد الناس وأهوائهم ، فإن ذلك يومئ لنا أن نفهم من كلمة الطاغوت بأنه الحاكم المتجبر ، أو الكبير المسيطر ، أو الملك القاهر الباطل ، ويكون المعنى:فمن يكفر بالطاغوت ، أي يزيل سلطان المتجبرين عن نفسه ، ويمنع تحكم المسيطرين على قلبه ، ويحرر عقله من أوهام الطغيان ، ويؤمن بالله ، فقد استمسك بالعروة الوثقى ، أي اعتمد على جانب قوي ، وعماد علي لا يهن من اعتمد عليه ، ولا يسقط من ركن إليه ، وفي ذلك إشارة إلى أمرين:
أحدهما:أن لا يحجب النفوس عن الإيمان بالله إلا طغيان المتجبرين عليها ، وسيطرة أوهام الكبراء ، فمن تحرر من ربقة الطاغوت تتكشف له الحقيقة العالية فيؤمن بها ، ويدركها ، ويعتصم بالله سبحانه وتعالى .
ثانيهما:إرشاد ضعفاء النفوس ومن أصاب الخور عزائمهم وأماتت الأوهام ثقتهم بأنفسهم أنهم إن رفضوا سلطان الطغاة ، وحاجزوا بينهم وبين قلوبهم ، فقد أمنوا ، ولن يصيبهم ضير إن آمنوا ، لأنهم آووا إلى ركن شديد ، وإلى معتصم حصين ، فلن تضيرهم مخالفة الملوك وغيرهم؛ لأن سلطانهم وهمي ، وسلطان الله حقيقي ، وقوتهم فانية ، وقوة الله أزلية باقية ، فمن آمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها .
و العروة في أصل معناها اللغوي تطلق على ما يتعلق بالشيء من عراه أي ناحيته ، فالعروة من الدلو والكوز المقبض ، ومن الثوب مدخل الزر . وتطلق العروة أيضا على الشجر الملتف الذي تأكل منه الدواب حيث لا كلأ ولا نبات .
و الوثقى مؤنث الأوثق ، وهو الشيء المحكم الموثق ، وتطلق كلمة الموثق أيضا على الشجر الذي يتجه إليه الناس عندما ينقطع الكلأ . والانفصام الانكسار ، وهو مطاوع فصم بمعنى كسر ، وإنما تكون المطاوعة حيث يحتاج الفصم إلى معالجة ، أي أن الشيء المفصوم يكون قويا ، بحيث يعالج الشخص كسره حتى ينكسر بعد طول المحاولة . وعلى ذلك فالعروة الوثقى في الآية إما أن تخرج على أنها الحبل الموثق الشديد الأسر الذي يربط بين شيئين ، ويكون المعنى:من آمن بالله وكفر بالطاغوت فقد استمسك ، أي أمسك بقوة وشدة طالبا العصمة بحبل موصول موثق قوي لا انفصام له . وقد تخرج العروة على أنها الشجر الذي لا يوجد سواه للمرعى والغذاء ، فيكون من كفر بالطاغوت وآمن بالله فقد اتجه وأخذ الجانب المفيد المربي المغذي وترك الجذب الذي لا يجدي . وقد مال الزمخشري إلى التخريج الأول ، وهو عندي أوضح وأشهر .
و الاستمساك كما أشرنا هو الإمساك المطلوب المستقر ؛ لأن السين والتاء تدل على الطلب ، والطلب هنا يفسر بأنه هجر الطاغوت طلبا للاعتصام بهذا الجانب القوي الذي لا يضل من طلبه ، ويصل إليه من اعتمد عليه ولم يطلب سواه . وقد ذكر الزمخشري في تفسيره أن هذا التعبير الكريم كله:[ فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها] فيه تمثيل وتصوير للمعاني السامية بالأشياء المحسوسة فقال:( هذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصوره السامع كأنما ينظر إليه بعينه ، فيحكم اعتقاده والتيقن به ) .
هذه هداية الله سبحانه وتعالى ، لا يكره أحد عليها ، ولكن يدعى الناس إليها بالبينات الواضحة التي يتميز بها الخير من الشر ، والحق من الباطل ، والنور من الظلام ، وبعد ذلك يكون الأمر لله تعالى . ولقد ذيل سبحانه الآية بقوله تعالى:[ والله سميع عليم] وفي هذا إشارة إلى أمرين جليلين:
أولهما:رقابة الله سبحانه وتعالى في الدنيا رقابة العليم الخبير ، فهو يعلم علم من يسمع همسات القلوب ، وخلجات الأنفس ، وهو وحده المتصف بالعلم المطلق الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا في الأنفس . وإذا كان المؤمن يحس برقابة الله تعالى المطلقة فإنه يتجافى عن المعاصي ، ويبتعد عنها استحياء من الله . فقوة الإحساس بعلم الله ترهف وجدان المؤمن . وهذا مقام الإحسان كما في الحديث الشريف "اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك "{[362]} .
الأمر الثاني:التنبيه إلى ما يترتب على العلم من الرضوان والثواب المقيم الدائم لمن أطاع الله وطلب رضاه ، والعذاب الأليم وغضب الله لمن عصاه سبحانه .
هذه الآية الكريمة واضحة كما قررنا في حقيقتين ثابتتين:
إحداهما:أن التدين لا يكون مع الإكراه؛ لأن الإكراه ينافي الاختيار الحر ، والتدين طلب الحق والأخذ به في حرية واختيار لا تشوبهما شائبة .
الحقيقة الثانية:أن الله سبحانه وتعالى ينهى عن الإكراه في الدين ، وحمل الناس عليه بقوة السيف حتى لا يكثر النفاق والمنافقون . وكثرة المنافقين ، وإن كثر عدد المسلمين في الظاهر ، تفسد جماعتهم في الحقيقة والواقع .
و لكن مع هذا الحق السائغ ، والنور المبين ، وجدنا الكثيرين يدعون أن هذه الآية منسوخة ، وادعوا أن الذي نسخها قوله تعالى في آيات كثيرة من آيات الجهاد ما يدل على القتال ، حتى يكون الإسلام مثل قوله تعالى:[ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم . . .73] ( التوبة ) ومثل قوله تعالى:[ ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون . . . 16] ( الفتح ) وقوله تعالى:[ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين 123] ( التوبة ) ففي هذه الآية تصريح بالقتال والغلظة مع الكفار ، وفي بعضها جعلت غاية القتال أن يسلموا . ولقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل:"أسلم "قال إني أجدني كارها ، فقال صلى الله عليه وسلم:"وإن كنت كارها "{[363]} .
و الحق أن حكم هذه الآية [ لا إكراه في الدين] ماض إلى يوم القيامة؛ لأنها تؤيد حقيقة ثابتة ، وتزكيها آيات أخرى ، وأحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم ، فإن الله سبحانه وتعالى يقول:[ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين 99] ( يونس ) .
و إن الباعث على القتال كما تصرح آيات القتال هو دفع الاعتداء ، فقد قال تعالى:[ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير 39] ( الحج ) وقال تعالى:[ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا . . .190] ( البقرة ) وجعل سبحانه وتعالى نهاية القتال أن تنتهي الفتنة في الدين ، والإكراه عليه ، فقد قال تعالى:[ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين 193] ( البقرة ) وهكذا فليس القتال في الإسلام للإكراه على الدين لأن الدين اختيار ورضا ، ولا اختيار أو رضا مع الإكراه ، والآيات الواردة بالأمر بالجهاد كلها محمولة على حال الاعتداء ، أو التحفز للاعتداء ، فلا يسوغ لمؤمن أن ينتظر حتى يغزى ، فإنه ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا .
و حياة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة تنبئ عن منع الإكراه في الدين ، فقد كان صلى الله عليه وسلم في مكة هو ومن معه من المؤمنين في اضطهاد ومحاولة لفتن الضعفاء منهم عن دينهم ، وحملهم على تغيير اعتقادهم وأنزلوا بهم من الأذى والعذاب ما لا تحتمله النفس البشرية حتى اضطر بعضهم إلى النطق بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولما انتقل إلى المدينة لم يحارب أحدا إلا بعد أن شنوا عليه الغارة ، أو استعدوا لها ، وألبوا عليه ، وكان على ذلك إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى .
و إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه لرجل:"أسلم وإن كنت كارها "لا يدل على جواز الإكراه في الدين ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما اكرهه بالسيف أو الأذى على أن يسلم ، بل إن الرجل بدت له البينات الواضحات ، والحجج النيرات ، ومع ذلك كان مأخوذا بما ألف ، كارها بعاطفته لأن يغير ما كان عليه آباؤه؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يوصيه بأن يتغلب على إحساسه ويتبع البرهان والدليل ، وكثير من الناس يبدو له وجه الحق واضحا ، وتلوح له بيناته باهرة ، ومع ذلك يكره السير في هذا النور ، اتباعا لما كان معروفا ، وسيرا وراء ما كان مألوفا ، فمثل هذا عليه أن يتبع الحق ولو كان كارها ، وأن يستولي على نفسه فيحملها على اتباع الحق ولو كرهته ، والطاعات قد تثقل على النفوس ، ولكن يجب اتباعها ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"حفت الجنة بالمكاره "{[364]} فحديث النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل من هذا الباب .
بعد هذا البيان نكرر ما قررنا وهو أن هذه الآية محكمة غير منسوخة ، وخصوصا أن ادعاء النسخ لا دليل عليه ، وإن النسخ لا يصار إليه إلا إذا لم يمكن التوفيق بين الآيتين ، فلو أمكن التوفيق ولو بتخصيص إحدى الآيتين لوجب السير إلى التخصيص دون النسخ . وإن التوفيق هنا ممكن بين آيات القتال وهذه الآية ، بل إن شئت الحق فقل إنه لا تعارض حتى تكون محاولة التوفيق ، فما كان القتال لحمل الناس على الإسلام ، بل كان القتال لدفع الاعتداء أولا ، ولكي يخلو الوجه للدعوة الإسلامية ثانيا ، ولتكون كلمة الحق هي العليا ثالثا ، والناس في كل الأحوال أحرار فيما يعتقدون وما يؤمنون به [ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء . . . 56] ( القصص ) .
و لقد روي في سبب نزول هذه الآية:[ لا إكراه في الدين] أن رجلا من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين ، كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو مسلما ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم:ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ؟ فنزلت هذه الآية . وفي رواية أخرى أنه حاول إكراههما فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال الأنصاري:يا رسول الله يدخل بعضي النار وأنا أنظر إليه! فنزل قوله تعالى:[ لا إكراه في الدين]{[365]} .
و قد كان المسلمون يسيرون على هذا المبدأ وهو [ لا إكراه في الدين] ويروى في ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لعجوز نصرانية:أسلمي تسلمي ، إن الله بعث محمدا بالحق ، فقالت:أنا عجوز كبيرة والموت إلي قريب . فقال عمر رضي الله عنه:اللهم اشهد ، وتلا [ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي] .