)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) ( البقرة:267 )
التفسير:
قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا}: سبق مراراً وتكراراً أن تصدير الخطاب بالنداء يدل على أهميته ،والعناية به ؛لأن النداء يتضمن التنبيه ؛والتنبيه على الشيء دليل على الاهتمام به ،وأن تصديره ب{يا أيها الذين آمنوا} يفيد عدة فوائد:
أولاً: الإغراء ؛و«الإغراء » معناه الحث على قبول ما تخاطَب به ؛ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: «إذا قال الله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا} فأرعها سمعك ،فإنه خير يأمر به ،أو شر ينهى عنه »{[501]} ؛ولهذا لو ناديتك بوصفك ،وقلت: يا رجل ،يا ذكي ،يا كريم .معناه: يا من توصف بهذا اجعل آثار هذا الشيء بادياً عليك .
ثانياً: أن امتثال ما جاء في هذا الخطاب من مقتضيات الإيمان ؛كأنه تعالى قال:{يا أيها الذين آمنوا} إن إيمانكم يدعوكم إلى كذا وكذا .
ثالثاً: أن مخالفته نقص في الإيمان ؛لأنه لو حقق هذا الوصف لامتثل ما جاء في الخطاب .
قوله تعالى:{أنفقوا من طيبات ما كسبتم}: بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى فيما سبق فضيلة الإنفاق ابتغاء وجهه ،وسوء العاقبة لمن منَّ بصدقته ،أو أنفق رياءً ،حثَّ على الإنفاق ؛لكن الفرق بين ما هنا ،وما سبق: أن ما هنا بيان للذي ينفَق منه ؛وهناك بيان للذي ينَفق عليه .
وقوله تعالى:{من طيبات ما كسبتم} أي مما كسبتموه بطريق حلال ؛و{كسبتم} أي ما حصلتموه بالكسب ،كالذي يحصل بالبيع والشراء ،والتأجير ،وغيرها ؛وكل شيء حصل بعمل منك فهو من كسبك .
قوله تعالى:{ومما أخرجنا لكم من الأرض}: قال بعضهم: إنه معطوف على{ما} في قوله تعالى:{ما كسبتم}؛يعني: «ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض » ؛ولكن الصحيح الذي يظهر أنه معطوف على قوله تعالى:{طيبات}؛يعني: «أنفقوا من طيبات ما كسبتم ،وأنفقوا مما أخرجنا لكم من الأرض » ؛لأن ما أخرج الله لنا من الأرض كله طيب ملك لنا ،كما قال تعالى:{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [ البقرة: 29] .
وقوله:{مما}: لو قلنا: إن «مِن » للتبعيض يكون المعنى: أنفقوا بعض طيبات ما كسبتم ،وبعض ما أخرجنا لكم من الأرض ؛وهناك احتمال أن «مِن » لبيان الجنس ؛فيشمل ما لو أنفق الإنسان كل ماله ؛وهذا عندي أحسن ؛لأن التي للجنس تعم القليل والكثير .
قوله تعالى:{أخرجنا لكم من الأرض} يشمل ما أخرج من ثمرات النخيل ،والأعناب ،والزروع ،والفاكهة ،والمعادن ،وغير ذلك مما يجب أن ننفق منه .
قوله تعالى:{ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} أي لا تقصدوا الخبيث منه فتنفقونه ؛لأن «التيمم » في اللغة: القصد ؛ومنه قوله تعالى:{فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} [ المائدة: 6]؛والمراد ب{الخبيث} هنا الرديء ؛يعني: لا تقصدوا الرديء تخرجونه ،وتبقون لأنفسكم الطيب ؛فإن هذا ليس من العدل ؛ولهذا قال تعالى:{ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} .
وقوله تعالى:{منه تنفقون} يحتمل في{منه} وجهان ؛أحدهما: أنها متعلقة ب{الخبيث} على أنها حال ؛أي الخبيث حال كونه مما أخرجنا لكم من الأرض ؛وعلى هذا يكون في{تنفقون} ضمير محذوف ؛والتقدير: تنفقونه ؛الوجه الثاني: أنها متعلقة بقوله تعالى:{تنفقون}؛يعني: ولا تقصدوا الخبيث تنفقون منه ؛وقدمت على عاملها للحصر ؛والوجهان من حيث المعنى لا يختلفان ؛فإن معناها أن الله ينهانا أن نقصد الخبيث - وهو الرديء - لننفق منه .
قوله تعالى:{ولستم بآخذيه}: أي لستم بآخذي الرديء عن الجيد لو كان الحق لكم{إلا أن تغمضوا فيه} أي تأخذوه عن إغماض ؛و «الإغماض » أخذ الشيء على كراهيته - كأنه أغمض عينيه كراهية أن يراه .
قوله تعالى:{واعلموا أن الله غني حميد}؛فهو لم يطلب منكم الإنفاق لفقره واحتياجه ؛{حميد}: يحتمل أن تكون بمعنى حامد ؛وبمعنى محمود ؛وكلاهما صحيح ؛لأن «فعيلاً » تأتي بمعنى فاعل ؛وبمعنى مفعول ؛إتيانها بمعنى فاعل مثل: «رحيم » بمعنى راحم ؛و«سميع » بمعنى سامع ؛وإتيانها بمعنى مفعول مثل: «قتيل » ،و«جريح » ،و«ذبيح » ،وما أشبه ذلك ؛وهنا{حميد} تصح أن تكون بمعنى حامد ،وبمعنى محمود ؛أما كون الله محموداً فظاهر ؛وأما كونه حامداً فلأنه سبحانه وتعالى يَحمَد من يستحق الحمد من عباده ؛ولهذا أثنى على أنبيائه ،ورسله ،والصالحين من عباده ؛وهذا يدل على أنه عز وجل حامد لمن يستحق الحمد .
ووجه المناسبة في ذكر «الحميد » بعد «الغني » أن غناه عز وجل غِنًى يحمد عليه ؛بخلاف غنى المخلوق ؛فقد يحمد عليه ،وقد لا يحمد ؛فلا يحمد المخلوق على غناه إذا كان بخيلاً ؛وإنما يحمد إذا بذله ؛والله عز وجل غني حميد ؛فهو لم يسألكم هذا لحاجته إليه ؛ولكن لمصلحتكم أنتم .
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: فضيلة الإيمان ؛لقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا}؛فإن هذا وصف يقتضي امتثال أمر الله ؛وهذا يدل على فضيلة الإيمان .
2 - ومنها: أن من مقتضى الإيمان امتثال أمر الله ،واجتناب نهيه ؛ووجهه أن الله تعالى قال:{يا أيها الذين آمنوا أنفقوا}؛فلولا أن للإيمان تأثيراً لكان تصدير الأمر بهذا الوصف لغواً لا فائدة منه .
3 - ومنها: وجوب الإنفاق من طيبات ما كسبنا ؛لقوله تعالى:{أنفقوا}؛والأصل في الأمر الوجوب حتى يقوم دليل صارف عن الوجوب .
4 - ومنها: وجوب الزكاة في عروض التجارة ؛لقوله تعالى:{ما كسبتم}؛ولا شك أن عروض التجارة كسب ؛فإنها كسب بالمعاملة .
5 - ومنها: أن المال الحرام لا يؤمر بالإنفاق منه ؛لأنه خبيث ؛والله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً .
فإذا قال قائل: ماذا أصنع به إذا تبت ؟
فالجواب أنه يرده على صاحبه إن أخذه بغير اختياره ؛فإن كان قد مات رده على ورثته ؛فإن لم يكن له ورثة فعلى بيت المال ؛فإن تعذر ذلك تصدق به عمن هو له ؛أما إذا أخذه باختيار صاحبه كالربا ،ومهر البغي ،وحلوان الكاهن ،فإنه لا يرده عليه ؛ولكن يتصدق به{[502]} ؛هذا إذا كان حين اكتسابه إياه عالماً بالتحريم ؛أما إن كان جاهلاً فإنه لا يجب عليه أن يتصدق به ؛لقوله تعالى:{فله ما سلف وأمره إلى الله} [ البقرة: 275] .
6 - ومن فوائد الآية: الرد على الجبرية ؛لقوله تعالى:{أنفقوا من طيبات ما كسبتم}؛ووجه الدلالة: أنه لو كان الإنسان مجبراً على عمله لم يصح أن يوجه إليه الأمر بالإنفاق ؛لأنه لا يقدر على زعم هؤلاء الجبرية ؛ولأن الله أضاف الكسب إلى المخاطَب في قوله تعالى:{ما كسبتم}؛ولو كان مجبراً عليه لم يصح أن يكون من كسبه ؛وليعلم أن مثل هذا الدليل في الرد على الجبرية كثير في القرآن ،وإنما نذكره عند كل آية لينتفع بذلك من يريد إحصاء الأدلة على هؤلاء ؛وإلا فالدليل الواحد كافٍ لمن أراد الحق .
7 - ومنها: وجوب الزكاة في الخارج من الأرض ؛لقوله تعالى:{ومما أخرجنا لكم من الأرض}؛وظاهر الآية وجوب الزكاة في الخارج من الأرض مطلقاً سواء كان قليلاً ،أم كثيراً ؛وسواء كان مما يوسَّق ،ويكال ،أم لا ؛وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم ؛وهو أن الزكاة تجب في الخارج من الأرض مطلقاً لعموم الآية ؛ولكن الصواب ما دلت عليه السنة من أن الزكاة لا تجب إلا في شيء معين جنساً ،وقدراً ؛فلا تجب الزكاة في القليل ؛لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة »{[503]} ؛و «الوسق » هو الحِمل ؛ومقدار خمسة أوسق: ثلاثمائة صاع بالصاع النبوي .
ولا تجب الزكاة إلا فيما يكال ؛وذلك من قوله ( ص ): «ليس فيما دون خمسة أوسق »؛و «الوسق » كما ذكرت هو الحمل ؛وهو ستون صاعاً ؛وعليه فلا تجب الزكاة في الخضراوات مثل: التفاح ،والبرتقال ،والأترج ،وشبهها ،لأن السنة بينت أنه لا بد من أن يكون ذلك الشيء مما يوسق .
تنبيه:
لم يبين في الآية مقدار الواجب إنفاقه من الكسب ،والخارج من الأرض ؛ولكن السنة بينت أن مقدار الواجب فيما حصل من الكسب ربع العشر ؛ومقدار الواجب في الخارج من الأرض العشر فيما يسقى بلا مؤونة ؛ونصفه فيما يسقى بمؤونة .
8 - ومن فوائد الآية: ما يتبين من اختلاف التعبير في قوله تعالى:{من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض}؛فلماذا عبر في الأول تعبيراً يدل على أن ذلك من فعل العبد ؛وفي الثاني عبر تعبيراً يدل على أنه ليس من فعل العبد ؟الأمر في ذلك واضح ؛لأن نمو التجارة بالكسب ،وغالبه من فعل العبد: يبيع ،ويشتري ،ويكسب ؛أما ما خرج من الأرض فليس من فعل العبد في الواقع ،كما قال تعالى:{أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} [ الواقعة: 63 ،64] .
9 - من فوائد الآية: وجوب الزكاة في المعادن ؛لدخولها في عموم قوله تعالى:{ومما أخرجنا لكم من الأرض} لكن العلماء يقولون: إن كان المعدن ذهباً أو فضة وجبت فيه الزكاة بكل حال ؛وإن كان غير ذهب ،ولا فضة ،كالنحاس ،والرصاص ،وما أشبههما ففيه الزكاة إن أعده للتجارة ؛لأن هذه المعادن لا تجب الزكاة فيها بعينها ؛إنما تجب الزكاة فيها إذا نواها للتجارة .
وهل يستفاد من الآية وجوب الزكاة في الركاز - والركاز هو ما وجد من دفن الجاهلية - أي مدفون الجاهلية ؛يعني ما وجد من النقود القديمة ،أو غيرها التي تنسب إلى زمن بعيد بحيث يغلب على الظن أنه ليس لها أهل وقتَ وجودها ؟لا يستفاد ؛لكن السنة دلت على أن الواجب فيه الخمس{[504]} ؛ثم اختلف العلماء ما المراد بالخمس: هل هو الجزء المشاع - وهو واحد من خمسة ؛أو هو الخمس الذي مصرفه الفيء ؟على قولين ؛وبسط ذلك مذكور في كتب الفقه .
10 - ومن فوائد الآية: تحريم قصد الرديء في إخراج الزكاة ؛لقوله تعالى:{ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} .
11 - ومنها: إذا ضمت هذه الآية إلى حديث ابن عباس حين بعث النبي معاذاً إلى اليمن ،وقال: «إياك وكرائم أموالهم »{[505]} ،تبين لك العدل في الشريعة الإسلامية ؛لأن العامل على الزكاة لو قصد الكرائم من الأموال صار في هذا إجحاف على أهل الأموال ؛ولو قصد الرديء صار فيه إجحاف على أهل الزكاة ؛فصار الواجب وسطاً ؛لا نلزم صاحب المال بإخراج الأجود ؛ولا نمكنه من إخراج الأردأ ؛بل يخرج الوسط .
12 - ومنها: الإشارة إلى قاعدة إيمانية عامة ؛وهي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه »{[506]} ؛ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى قال:{ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه}؛فالإنسان لا يرضى بهذا لنفسه فلماذا يرضاه لغيره ؟!!فإذا كنت أنت لو أُعطيت الرديء من مال مشترك بينك وبين غيرك ما أخذته إلا على إغماض ،وإغضاء عن بعض الشيء ؛فلماذا تختاره لغيرك ،ولا تختاره لنفسك ؟!!وهذا ينبغي للإنسان أن يتخذه قاعدة فيما يعامل به غيره ؛وهو أن يعامله بما يحب أن يعامله به ؛ولهذا جاء في الحديث الصحيح: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ؛وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه »{[507]} ،هذه قاعدة في المعاملة مع الناس ؛ومع الأسف الشديد أن كثيراً من الناس اليوم لا يتعاملون فيما بينهم على هذا الوجه ؛كثير من الناس يرى أن المكر غنيمة ،وأن الكذب غنيمة .
13 - ومن فوائد الآية: إثبات القياس ؛وذلك لقوله تعالى:{ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه}؛يعني إذا كنت لا ترضاه لنفسك فلا ترضاه لغيرك ؛أي قس هذا بهذا .
14 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله ،وما تضمناه من صفة ؛وهما «غني » و «حميد » .