مناسبة النزول
جاء في الكافي بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد الله( ع ) في قول الله عز وجل:{يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} قال: كان رسول الله( ص ) إذا أمر بالنخل أن يزكّى ،يجيء قوم بألوان من ثمر وهو من أردى التمر يؤدونه من زكاتهم تمراً يقال له الجعرور والمعافاره قليلة اللحي عظيمة النوى ،وكان بعضهم يجيء بها عن التمر الجيّد ،فقال رسول الله( ص ): لا تخرصوا هاتين التمرتين ولا تجيئوا منها بشيء ،وفي ذلك نزل{وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} والإغماض أن تأخذ هاتين التمرتين .
وروى زرارة عن أبي جعفر محمد الباقر( ع ) في قول الله:{وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} قال: كانت بقايا في أموال الناس أصابوها من الربا ومن المكاسب الخبيثة قبل ذلك ،فكان أحدهم يتيممها فينفقها ويتصدق بها ،فنهاهم الله عن ذلك .
وعنه أيضاً: إن الصدقة لا تصلح إلا من كسب طيب .ولعل هذا من باب الاستيحاء .
القرآن يخطط للإنفاق: النوعية والمورد والكيفية
وهذه جولة جديدة في تفاصيل المفهوم الإسلامي للإنفاق من حيث نوعية المال الذي ينفقه الإنسان ،والأشخاص الذين يستحقون ذلك ،ومن حيث جانب السرّ والعلانية في الإنفاق .فإن الحديث في مثل هذه الأمور يوحي بالخط المستقيم الذي ينبغي للمؤمن أن يسير عليه من أجل أن يكون منتجاً في طبيعته وغايته .
إنّ هذه الآيات تدعو المؤمنين إلى الإنفاق من الطيبات مما يملكونه من المال ،ليكونوا النموذج الإيجابي المنفتح على العطاء من قاعدة الخير الكافي في ذاته على أساس حبّهم له وللناس الذين يعانون الحرمان في ظروفهم الحياتية الصعبة .وهي تصوّر لنا نموذجاً من الناس ،يحاولون أن يختاروا ما ينفقونه من الأموال المستهلكة التي لا يرغبون فيها لقدمها ،أو لخبث طعمها أو شكلها ،ما يجعلهم يودون التخلص منها بأيّة طريقة ممكنة ،بحيث إنهم قد يلقونه جانباً في النفايات إذا لم يجدوا أحداً يأخذه منهم ،ولو عُرض عليهم من الآخرين لما قبلوه إلا بالإغماض فيه بالتساهل والتسامح .{أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} وذلك هو قوله تعالى:{يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} اعملوا على أن يتمثل الإيمان في حياتكم روحاً في الوعي ،وعاطفة في القلب ،وحركةً في الواقع ،وقيمةً في الذات ،لتنطلقوا مع الآخرين من خلال إيحاءاته الفكرية والعملية .
{أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} من جهدكم المتحرك في تجارتكم من مصادر الحلال الذي تستطيبونه في طعامكم وشرابكم وأوضاعكم الحياتية{وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرضِ} من الثمرات التي تستلذونها وتتنافسون في الحصول عليها ،فذلك هو المظهر الحيّ للقيمة الإنسانية في العطاء في سلوككم الإنساني تجاه الآخرين ،لتكون القضية عندكم ما هي حاجة الآخرين مما تملكون تقديمه لهم ،لأنكم تفكرون فيهم كما تفكرون في أنفسكم ،لا ما هي طبيعة المال الذي تقدمونه لهم لتختاروا الرديء على الجيد حتى لا تكون خسارتكم بالعطاء كبيرة .
{وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ} لا تقصدوا إعطاء المال الخبيث الذي يرفضه الناس وترفضونه لرداءته وقلة الانتفاع به{مِنْهُ تُنفِقُونَ} كوسيلةٍ من وسائل التخلص منه مع الحصول على عنوان الخير في الإنفاق منه ،مما يمكن أن يذكركم الناس به ،في الوقت الذي تنطلق فيه دوافعكم بعيداً عن الخير ،لأنكم لا تقبلون أن تأخذوا هذا المال من الآخرين في عطائهم لكم{وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} وتتسامحوا في صفاته ،بعدم التدقيق بألوان الرداءة في خصائصه الذاتية من خلال الظروف التي تفرض عليكم أخذه .
لقد أراد الله أن يوحي لهؤلاء بأن ذلك ليس من شأن الإيمان به تعالى ،لأن الإنفاق في هذه الصورة ،لا يمثل روح العطاء المنفتحة على القيم الروحية المستمدة من محبة الله ورضاه ،بل يمثل وجهاً من وجوه التخلّص من المال الخبيث بعنوان الإنفاق من باب اللعب على القيم ومخادعة النفس في ذلك .
{وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} فليس عطاؤكم الذي يدعوكم إليه بالإنفاق من أموالكم الطيبة في سبيله منطلقاً من حاجته إليكم ،فالمال ماله ،وأنتم ملكه ،وهو الغني عنكم ،الحميد في كل صفات الحمد في ذاته ،ولكنه يريد بذلك صلاحكم وإصلاح أموركم في حياتكم الاجتماعية القائمة على العطاء والتكافل الاجتماعي الذي يكفل فيه الناس بعضهم بعضاً ،فيعطي كل واحد منهم ما يملكه للآخر ،تماماً كما لو كان مسؤولاً عنه بشكل خاص ،لأن المجتمع في نظر الإسلام بمثابة عائلة واحدة ،أو جسد واحد ،فإذا تألم منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر .