القرآن يوضح الصورة بالمثل
{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} .
إن الله يقدّم لنا صورة أخرى تربطنا بالجانب الإيجابي الخيّر من الإنفاق وتبعدنا عن الجانب السلبي الشرّير ،وذلك من خلال الإيحاء بالحاجة الملحّة الشديدة للارتباط بالجانب الإيجابي على أساس ارتباطه بقضية المصير الذي يفرض علينا الوقوف مع العمل النابع من وعي الإنسان لموقفه من الله ومن شريعته المثلى في خطّه العملي في الحياة ،وتلك هي الصورة الحيّة تتمثل أمامنا بوضوح ،إنها صورة شيخ كبير بلغ من العمر عتيّاً وضعفت قواه حتى لم يستطع أن يعمل أو يكسب لقمة عيشه بيده ،وله ذرية ضعفاء لا يقدرون على العمل ،إما لصغر السن ،أو للمرض ،أو لشيء آخر .
وإلى جانب هذه الصورة ،تقف صورة أخرى تدخل في أمنيات هذا الشيخ الكبير ،وهي أن تكون له{جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَراتِ} ،بحيث تستطيع أن تكفل له عيشه وتؤمن له حياته وحياة ذريته الضعفاء الذين لا يستطيعون أن يقوموا بمسؤولية أنفسهم ولا بمسؤوليته ،كما لا يستطيعهوأن يقوم بمسؤوليتهم ومسؤولية نفسه .كيف نتصور قيمة هذه الأمنية في حياته إذا تحققت وكيف يكون موقفه منها وشعوره تجاهها ؟
إنها تمثل في حياته الأمل حيث لا أمل ،وتبدع له الشروق حيث لا مجال إلا للظلام ،فيستريح لها ويسترخي ويغلق عينيه من خلالها على أطياف الرخاء تتفجر من ينابيعها وتتساقط من ثمارها ،ويأخذ من ضعفه قوة للمستقبل وللحياة .فقد أصبح لا يحمل هماً للحياة في كل مسؤولياتها ومشاكلها ،لأن هذه الجنة تخفف عنه كل المسؤوليات وتحل له كل المشاكل المادية في ما يحفل به العيش من مشاكل .
وتتبدل الصورة فجأة ؛فإذا بالنيران التي يحملها الإعصار تلتهم كل هذه الثمرات ،وتحرق كل النخيل والأعناب ،ويقف هذا الشيخ الكبير ومعه ذريته الضعفاء أمام هذا المشهد بمشاعر لا يستطيع أن يصورها قلم أو تحددها كلمة .إنه اليأس القاتل الذي لا يترك للحياة أي معنى في أعماق الإنسان ،لما يحمله في داخله من معاني الضياع الهائل في بيداء الرمال المتحركة أمام الرياح العاصفة في الليل البهيم .
وتقفز لنا من خلال هذه الصورة صورة المرائي الذي ينفق ماله رئاء الناس وصورة الإنسان الذي يتبع ما أنفق منّاً وأذىً ،إنه يحلم بالنتائج الكبيرة التي تكسبه النجاح والقرب من الله ،لكثرة ما أنفق ،وقيمة ما أعطى ،مما يؤمن له مصيره .إنه سيواجه في نهاية المطاف الصورة المرعبة التي تتمثل لهمن خلالهاأعماله كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ،في الوقت الذي لا يملك فيه القيام بأي عمل جديد يقوي فيه موقفه وينقذ به مصيره المحتوم .
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} إنها ليست للرّوعة الفنية يقف الإنسان أمامها خاشعاً لروعة الإبداع ،وليست للحفظ ليحصل منها الإنسان على مزيد من البركة ،بل هي للعبرة وللعظة وللتفكير ،من أجل أن يحدد الإنسان على هداها حياته ليسير بها على الخط المستقيم الذي يحبه الله ويرضاه ،فيختار أقرب الوسائل التي توصله إلى النجاح في الدنيا والآخرة ،وذلك هو سبيل المؤمنين في ما يفعلون وفي ما يتركون .
الإنفاق كحلّ في التخطيط الاقتصادي العام
ربما يُطرح سؤال في أجواء الحث القرآني والنبوي على الإنفاق في سبيل الله ،والتشجيع الأخلاقي على الصدقات ،هل هذا هو الحل الإسلامي للمشكلة الاقتصادية بحيث تكون حركةً في المسألة الاجتماعية في خط التعاليم الدينية ،أو أن للمسألة وجهاً آخر ؟والجواب: إن الاقتصاد في حياة الناس ليس عنواناً بسيطاً يمكن تحريكه في المبادرات الفردية أو الاجتماعية في تقديم العطاءات المادية الخيرية للفئات المحرومة في المجتمع على أساس مسؤولية الناس عن بعضهم البعض في مسألة التكافل الاجتماعي ،لأن ذلك لن يساهم في أيّ حلٍّ متوازن للمشكلة الاقتصادية التي تتمثل في تعقيدات عملية الإنتاج والتوزيع والتنظيم الدقيق لحركة تداول الثروة وتحريكها في الداخل والخارج وما يتفرع عنها من النظرة الواقعية العادلة في دراسة المسألة الطبقية على مستوى التقارب بين الطبقات أو إلغاء الفوارق بينها ،وغير ذلك من العناوين الكلية والجزئية في الساحة الاقتصادية .
من العناوين الكلية والجزئية في الساحة الاقتصادية .
وفي ضوء ذلك ،فإن المشروع الإسلامي الاجتماعي في استحباب الإنفاق على أساس نظام الصدقات الفردية أو المبادرات التطوعية في هذا النشاط الاجتماعي أو ذاك ،لا يمثل الخطة الاقتصادية التي لا بد فيها من شمولية النظرة إلى الواقع لتحديد نوع المشكلة وحجمها وامتداداتها فيه ،ومن التخطيط العملي للحلول العملية من خلال القوانين التفصيلية الموضوعة لتحقيق الهدف الكبير ،بل يمثل نوعاً من أنواع الحركة الاجتماعية التي يتداخل المجتمع فيها في علاقات أفراده ببعضهم البعض ،من أجل إيجاد البنية الاجتماعية القومية الصلبة التي تمثل القاعدة الإنسانية الواسعة في تكوين الهيكلية الشعبية في حلّ المشاكل الطارئة السريعة ،وفي مواجهة الحالات المعقدة التي لا تملك الدولة معالجتها في نطاق مرحلي ،أو في المستوى الخاص الذي قد لا يحقق للفرد حاجاته الخاصة والعامة ،بحيث لا تقف الدولة حائرة أمام ذلك ،كما لا يواجه الناس المشكلة من دون الحصول على حلّ ،وبهذا يتميز التنظيم الإسلامي للمجتمع عن ألوان التنظيم الآخرى التي تعطي الدولة المركزية المطلقة في المسألة الاقتصادية ،لتكون للدولة دائرتها القانونية في التخطيط العام للمشكلة من خلال الحلول العلمية التي تقدمها في التقنين التشريعي ،وليكون للمجتمع دوره في مسؤوليته الأخلاقية الدينية عن الحالات الكثيرة التي يتداولها الواقع الاجتماعي للناس ،ولتنطلق الخطة العامة في عملية تنسيق متحرك بين الدولة والمجتمع الأهلي ،لا يتجمد في الصيغ القانونية ،ولا يضيع في متاهات الأوضاع العامة الباحثة عن الحدود المتوازنة للأشياء .
وفي ضوء هذا ،يمكن للواقع الإسلامي أن يعيش من خلال المبادرة الفردية ،ذهنية الدولة في المسؤوليات المحدودة في الدوائر الصغيرة حتى في غياب الدولة ،ليكون التكافل الاجتماعي عنواناً من عناوين وجوده الحركي ،كما تشعر الدولة بأنها لا يمكن أن تترك القاعدة الشعبية غارقة في مشاكلها المعقدة عندما تتعقد الحلول ،بل تعمل على التكامل معها في المسألة الاجتماعية والاقتصادية كما في المسألة السياسية والأمنية .
وهكذا يتحول المجتمع إلى قوّة تعيش روحية الدولة في مسؤولياتها ،كما تنطلق الدولة لتكون عنوان المجتمع في تطلعاته وخططه وأهدافه .وهذا ما يبتعد بالمسؤولية عن حالة الجمود القانوني ،ويدفع الإنسانالفرد والإنسانالمجتمع إلى أن يكون عنصراً حيّاً في التفاعل مع الآخرين من أهله وأبناء أمته ،من موقع الحالة الإيمانية التي تتحرك في الجانب الشعوري كي تتمثل في الجانب العملي ،ليلتقي الجميع على صعيد توفير الخير للإنسان كله في الساحة كلها .