[ أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت] هذا مثل ثان يذكره سبحانه وتعالى في بيان أولئك الذين يحبطون أعمالهم من صدقات أو صلوات أو حج وغير ذلك من أعمال البر بالرياء أو المن والأذى ، أو التطاول على الناس بما يزعمون لأنفسهم من عمل خير قاموا به .
و هو يختلف عن التشبيه السابق من ناحيتين:
أولاهما:في الشكل ، فإن التشبيه الأول كان بصريح اللفظ ، وقد ذكر فيه المشبه والمشبه به وأداة التشبيه وهي الكاف في قوله تعالى:[ كمثل جنة بربوة] ، أما هذا التشبيه فلم يذكر فيه المشبه ولا أداة التشبيه ، وهو من النوع البياني الذي يسميه علماء البلاغة "استعارة تمثيلية "وهي تشبيه حال بحال لم تذكر فيه أداة التشبيه ولا المشبه ، بل ذكر المشبه به فقط ، وقامت قرائن تدل على إرادة التشبيه .
الناحية الثانية:أن التشبيه الأول فيه تشبيه من يبتغي بعمله مرضاة الله ، وينقي ضميره وقلبه من كل رياء ونفاق ، بالحديقة الغناء المثمرة القائمة على ربوة من الأرض خصبة منتجة ، أما هنا فالتشبيه هو تشبيه من ينقض عمل الخير الذي يعمل برياء يحبطه ، أو منّ أو أذى ، أو مباهاة ومفاخرة ببره بين الناس ، بمن كانت له حديقة فيها نخيل وأعناب ، وأنهار تجري فيها مع الثمرات وقد أصابه الكبر ، وله ذرية ضعفاء ، وتكون عونا لهم بعد وفاته فأصابتها رياح شديدة فيها نار فاحترقت .
و لم يذكر في هذه الآية المشبه ولا أداة التشبيه كما نوهنا ، بل ذكر المشبه به فقط ، فعلينا أن نتكلم في مفردات المشبه به ومعانيها ، ثم نتعرف المشبه ووجه الشبه ، ومغزى هذا التشبيه السامي الكريم .
و الود في قوله تعالى:[ أيود أحدكم] معناه محبة الشيء مع تمنيه ، ولذلك يستعمل في مقام التمني . والنخيل اسم جمع النخل ، والأعناب جمع عنب ، وهو ثمرة الكروم ، وقد جاء في تفسير المنار في السبب في ذكر النخيل دون ثمرتها وهو التمر ، بينما ذكر العنب وهو ثمر الكروم وقالوا في تعليل ذلك:( إن كل شيء في النخيل نافع للناس في إنفاقهم:ورقه وجذوعه وأليافه وعثاكيله{[378]} ، فمنه يتخذون القفف والزنابيل والحبال والعروش والسقوف وغير ذلك ){[379]} . والإعصار ريح عاصفة تستدير في الأرض ثم تنعكس منها صاعدة إلى السماء على هيئة العمود ، وقيل:الإعصار ريح تثير سحابا ذا رعد وبرق ، وسميت إعصارا لأنها تلتف كالثوب ، أو لأنها تكون سببا في نزول المطر ، فكأنها تعصر السحاب ، فتنزل ما يحمل من ماء ، ولذا فسرت المعصرات في قوله تعالى:[ وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا 14] ( النبأ ) بأنها السحاب ؛ لأنها تعصر بالإعصار ذلك العصر . والنار التي تكون في الإعصار هي البرق الذي يتسبب عن اصطدام السحاب بتحريك ذلك الإعصار ، أو أن السحاب مع هذه القوة الشديدة التي يتحرك بها هو أيضا حامل لنار إذا أصابت شيئا أحرقته .
هذه مفردات المشبه به ومعانيها ، والاستفهام في قوله تعالى:[ أيود أحدكم أن تكون له حنة] هو للإنكار ، وهو لإنكار الوقوع أي بمعنى النفي ، والمعنى لا يود أحدكم أن يكون له جنة . . إلخ ، ومجيء النفي على صيغة الاستفهام على ذلك النحو ، لتأكيد النفي ، وبيان أن الأمر في ذاته غير معقول ، بحيث لو سئل عنه أي عاقل لأجاب بنفيه ؛ لأن النفي مجمع عليه من كل العقلاء .
و خلاصة القول:إنه لا يود أحد أن تكون له جنة فيها نخيل وعنب ، وفيها من كل الثمرات غير النخيل والعنب – وكان النص عليهما لأنهما فاكهة العرب – وإنها مع هذه الثمرات الطيبة ذات منظر بهيج ، فالأنهار تجري من تحتها فتمدها بالخصب ، كما تسر الناظرين ، قد احتازها وأصابه الكبر ، وله ذرية ضعفاء من ذكور وإناث يحتاجون إلى مال من بعده يسد عوزهم ، ويقيم أودهم ، ومع هذا الأمل المدخر في هذه الحديقة أصابتها ريح شديدة فيها نار فاحترقت بنارها ، لا يود أحد ذلك أبدا ، وهو شر يتوقاهيدعو الله سبحانه وتعالى أن يجنبه إياه .
هذا هو المشبه به فما هو المشبه ؟ إنه يفهم من سياق القول من سابقه ولاحقه ، وهو العمل الطيب المنتج الذي يكون مدخر الرجل في حياته الآخرة ، كما كانت الحديقة مدخرة لذريته في كبره ، وهم امتداد حياته وفيهم بقاؤه بعد مماته ، وإنه في هذه الحياة الدنيا الفانية الوشيكة الزوال كمن أصابه الكبر وله ذرية ضعاف تحتاج إلى مدخره بعد مماته ، فهو محتاج إلى مدخره من الأعمال الصالحة بعد وفاته لتكون ذخره وثروته في الحياة الباقية بعد هذه الفانية ، وإنه إذا أبطل ذلك العمل برياء يحبطه ، أو من أو أذى أو مباهاة أو فخر ، يكون كمن يرضى بأن تحترق جنته في كبره بريح عاتية تأكل الأخضر واليابس ولا تبقي من المدخر لذريته في القابل قليلا .
هذا هو المشبه المستنبط الذي تدل عليه الآيات السابقة واللاحقة .
و لقد روى البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يوما لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:( فيمن ترون هذه الآية:[ أيود أحدكم أن تكون له جنة] نزلت ؟ قالوا:الله ورسوله أعلم ، فغضب عمر ، وقال:قولوا نعلم أو لا نعلم! فقال ابن عباس:في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين ، قال:يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك . قال ابن عباس:ضربت مثلا لعمل . قال عمر:أي عمل ؟ قال ابن عباسلعمل رجل غني يعمل بطاعة الله ، ثم بعث الله له الشيطان فعمل في المعاصي حتى أحرق عمله ، وفي رواية أخرى:فإذا فني عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من أعمال الشقاء ) .
و روي أن عمر رضي الله عنه قال:هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملا صالحا حتى إذا كان آخر عمره أحوج ما يكون إليه عمل عمل السوء .
و إننا إذا نظرنا إلى سياق الآيات قصرنا المشبه على من يفسد عمله بالمن والأذى والمباهاة والمفاخرة ، ثم إذا نظرنا إلى هاتين الروايتين اعتبرنا المشبه هو حال الرجل يعمل الصالحات ، حتى إذا دنا أجله أو كاد ، عمل عملا غير صالح ، فكانت حاله كحال رجل كل ثروته حديقة غناء فيها من كل الثمرات وكل زوج بهيج ، قد توافر خيرها ، حتى إذا أصابه الكبر وله ذرية ضعاف تحتاج إلى ما يترك من المال ، أصابت ثروته ريح عاتية فذهبت بها ، فترك ذريته من غير شيء . وعلى هذا يكون المقصد والمرمى الاستمرار على عمل البر والمداومة عليه في هذه الدنيا .
و عندي أن يجعل المشبه خاصا في دائرة السياق الخاص بالمن والأذى والرياء ، ويكون التشبيه على هذا الوجه أن حال من يفعل الخير ويكثر منه ثم يبطله بالمن أو الأذى أو الرياء ، كحال رجل يملك حديقة غناء جعلها موضع أمله في حياته ، وغذاء أولاده بعد وفاته وهو في سن الكبر ، ثم وهو في هذه الشيخوخة الفانية أصاب ثروته ريح أحرقتها ، إنه لا يود أحد أن يكون في هذه الحال ، فكذلك يجب أن ينفر فاعل الخير من تلك الموبقات التي هي كالريح العاصف الذي يهلك الزرع والنسل ، ويذهب بالثروة المثرية في وقت هو أشد ما يكون حاجة إليه في قابل حياته ، ولذريته بعد مماته .
و إنه يرشح لهذا المعنى قوله تعالى:[ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى] كما يرشح له كل التشبيهات السابقة .
و إن وجه الشبه على هذا هو أن في الحالين إبطالا لأمر جوهري في الحياة له نفاسة في ذاته ، وله نفع في الحاضر والقابل ، يذهبه أمر عارض مزيل لا يبقي بعده شيئا مفيدا ، فكما أن الحديقة الغناء ذات النفع في الحاضر والقابل للحاضر ومن يخلفهم يذهب بها الإعصار الشديد المحرق ، فكذلك النفاق والرياء والمن والأذى والتطاول على الناس بفعل الخير يفسد عمل الخير الذي هو ثروة معنوية لفاعله في حاضره ومستقبله ، وفيه رضوان الله وعزته ، فهل يود مؤمن أن تكون حاله كحال من يصيب الإعصار ثروته في كبره ، فيمد يده إلى الناس شيخا هرما فانيا ، ويترك أولاده كلا على الناس من بعده ؟ لا يود مؤمن ذلك . فلا يصح أن يمكن الرياء من نفسه والاستطالة والمباهاة والمن والأذى من لسانه ، فيكون ذلك إعصارا شديدا يذهب بعمله .
و في هذا التشبيه فوائد كثيرة:
أولها:الإشارة إلى أن هذه الحياة الدنيا مهما طالت فهي متاع قليل ، وعلى المؤمن أن ينتفع بكل لحظة بعمل الخير يحتسبه عند ربه ، كالرجل الذي يكون في شيخوخة فانية فعليه أن يتوقع الموت دائما كما يتوقع صاحب هذه الشيخوخة ، وعليه أن يعمل الخير عمل من يخشى الفوت ، وقد قرب منه الموت .
ثانيها:أن الرياء والمباهاة والاستطالة بعمل الخير تذهب به بل تحرقه ، كما يحرق الإعصار الحديقة الغناء .
ثالثها:أن عمل الخير ينمو ويربو وينتج كالحديقة الغناء التي فيها من كل الثمرات والمياه تجري من تحت أغراسها والشمس تمد ثمارها ، فتؤتي أكلها بإذن ربها ، فهي في نماء مستمر دائم .
رابعها:أن من مطالب الحياة التي يقرها الدين أن يحرص الرجل على أن يترك لأولاده إذا كانوا ذرية ضعافا ، فضلا من المال يستعينون به في شدائد الحياة ، ولا يكونون كلا على الناس ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن مالك{[380]}في مرض كان يتوقع الموت منه ، وقد أراد أن يتصدق بماله كله فنهاه وأقره على التصدق بالثلث:"إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس "{[381]} .
هذه بعض إشارات الآية الكريمة وإنها لتشع منها معان سامية متعددة كما يشع الثمر الجيد من الغصن المثمر ، تعالت كلمات الله العليم الحكيم .
و من أجل هذه المعاني السامية المنبعثة من ذلك النص الكريم المفهومة من عباراته وإشارته ، دعا سبحانه إلى التفكير فيها وتدبرها مع غيرها ، فقال عز من قائل:
[ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون] هذا ختام هذه الآية الكريمة ، والآيات المقصودة هنا هي الآيات القرآنية ، والمراد من التفكر هو التدبير والتأمل وتعرف مرامي العبارات القريبة والبعيدة ، والتفكر في عواقب الأعمال ونتائجها ، وفي أسبابها وغاياتها . والتشبيه في قوله تعالى:[ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون] فيه تشبيه الكلي العام من بيان الله سبحانه وتعالى في كل آياته ، بهذه الصورة الجزئية التي رأيناها في تلك التشبيهات الرائعة وذلك السياق المحكم ، وتلك المعاني الجلية التي يتدبرها المتدبر ، فتجلى له معان كريمة سامية كلما أعمل فكره وتفكر وقدر ، ومثل ذلك كما يجرى في عباراتنا – ولكلام الله المثل الأعلى – أن يقول عندما يعمل عملا جيدا يعمله فيستحسن ، فيقول:كذلك أعمل دائما ، أي كهذا العمل الذي استحسنتموه كل عمل . ومعنى التشبيه في الآية الكريمةعلى هذا يكون هكذا:كهذا البيان الجلي الرائع الذي بدا في هذا المثل المحكم بيان الله الكلي لكل آياته في كتابه الحكيم .
و لعل قوله تعالى:[ لعلكم تتفكرون] هي في الرجاء ، وليس الرجاء من الله تعالى ؛ لأن الله سبحانه وتعالى عالم بكل شيء ، فلا يكون منه رجاء وتوقع ؛ لأن ذلك شأن من لا يعلم ، إنما يكون منه سبحانه وتعالى تحقق وتأكد ، وإنما معنى الرجاء هو المتفق مع ذات البيان ؛ لأن ذلك من شأنه أن يرجى معه تفكر المتفكر وتدبر المتدبر ، ولذلك قال بعض العلماء:إن لعل هنا للتعليل ، فالمعنى كان ذلك البيان لتتفكروا وتتدبروا .
و المعنى الإجمالي لذلك الختام الكريم لهذا المثل السامي الحكيم:يبين الله سبحانه وتعالى آياته دائما ، كذلك البيان الذي اتضح لكم في هذا المثل الرائع المحكم الذي تتسع آفاق الفكر في إدراكه ، فبيان الله دائما من ذلك النوع ، لتتفكروا وتتأملوا آيه ، وتدركوا مراميها القريبة والبعيدة .
وفقنا الله سبحانه وتعالى لإدراك معاني كتابه ، والعمل به ، وألهمنا الصواب في فهمه؛ إنه سبحانه وتعالى الهادي إلى الحق دائما .