قال الحسن:هذا مثل ، قل والله من يعقله من الناس:شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته . وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا .
وفي «صحيح البخاري » عن عبيد بن عمير قال:قال عمر رضي الله عنه يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:«فيم ترون هذه الآية نزلت:{ أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل} الآية ؟ قالوا:الله أعلم . فغضب عمر وقال:قولوا نعلم أو لا نعلم . فقال ابن عباس رضي الله عنه:في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين . فقال عمر:قم يا ابن أخي ، [ قل] ولا تحقر نفسك . قال ابن عباس:ضربت مثلا لعمل . قال عمر:أي عمل ؟ قال ابن عباس:لعمل ! قال عمر:لرجل عمل بطاعة الله ، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله » .
فقوله تعالى:{ أيود أحدكم} أخرجه مخرج الاستفهام الإنكاري ، وهو من النفي والنهي وألطف موقعا ، كما ترى غيرك يفعل فعلا قبيحا ، فتقول له:يفعل هذا عاقل ، أيفعل هذا من يخاف الله والدار الآخرة ؟
وقال تعالى:{ أيود أحدكم} بلفظ الواحد لتضمنه معنى الإنكار العام ، كما تقول:أيفعل هذا أحد فيه خير ؟ وهو أبلغ في الإنكار من أن يقول:أيودون .
وقوله:{ أيود} أبلغ في الإنكار من لو قيل:{ أيريد} ؛ لأن محبة هذا الحال المذكورة وتمنيها أقبح وأنكر من مجرد إرادتها .
وقوله تعالى:{ أن تكون له جنة من نخيل وأعناب} خص هذين النوعين من الثمار بالذكر لأنهما أشرف أنواع الثمار ، وأكثرها نفعا ؛ فإن منهما القوت والغذاء . والدواء والشراب والفاكهة والحلو والحامض ، ويؤكلان رطبا ، ويابسا ، منافعهما كثيرة جدا .
وقد اختلف في الأنفع والأفضل منهما ؟
فرجحت طائفة النخيل ، ورجحت طائفة العنب ، وذكرت كل طائفة حججا لقوله ، فذكرناها في غير هذا الموضع .
وفصل الخطاب:أن هذا يختلف باختلاف البلاد . فإن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بأن سلطان أحدهما لا يحل حيث يحل سلطان الآخر .
فالأرض التي يكون فيها سلطان النخيل لا يكون العنب بها طائلا ولا كثيرا . لأنه إنما يخرج في الأرض الرخوة اللينة المعتدلة غير السبخة ، فينمو فيها ويكثر ، وأما النخيل فنموه وكثرته في الأرض الحارة السبخة ، وهي لا تناسب العنب .
فالنخل في أرضه وموضعه أنفع وأفضل من العنب فيها . والعنب في أرضه ومعدنه أفضل من النخل فيها . والله أعلم .
والمقصود:أن هذين النوعين هما أفضل أنواع الثمار وأكرمها . فالجنة المشتملة عليهما من أفضل الجنان ، ومع هذا فالأنهار تجري تحت هذه الجنة . وذلك أكمل لها وأعظم في قدرها ، ومع ذلك فلم تعدم شيئا من أنواع الثمار المشتهاة ، بل فيها من كل الثمرات ، ولكن معظمها ومقصودها النخيل والأعناب ، فلا تنافي بين كونها من نخيل وأعناب ، و{ فيها من كل الثمرات} .
ونظير هذا قوله تعالى:{ واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا * كلتا الجنتين آتت أكلها ولم نظلم منه شيئا وفجرنا خلالها نهرا * وكان له ثمرا} [ الكهف:34 .32] .
وقد قيل:إن الثمار في آية الكهف وفي آية البقرة المراد بها المنافع والأموال ، والسياق يدل على أنها الثمار المعروفة لا غيرها ، لقوله في البقرة:{ وله فيها من كل الثمرات} .
ثم قال تعالى:{ فأصابها} أي الجنة{ إعصار فيه نار فاحترقت} ، وفي الكهف{ وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها} [ الكهف:42] وما ذلك إلا ثمار الجنة .
ثم قال تعالى:{ وأصابه الكبر} هذا إشارة إلى شدة حاجته إلى جنته ، وتعلق قلبه بها من وجوه:
أحدها:أنه قد كبر سنه عن الكسب والتجارة ونحوها .
الثاني:أن ابن آدم عند كبر سنه يشتد حرصه .
الثالث:أن له ذرية ، فهو حريص على بقاء جنته لحاجته وحاجة ذريته .
الرابع:أنهم ضعفاء ، فهم كل عليه ، لا ينفعونه بقوتهم وتصرفهم .
الخامس:أن نفقتهم عليه ، لضعفهم وعجزهم .
وهذا نهاية ما يكون من تعلق القلب بهذه الجنة ، لخطرها في نفسها ، وشدة حاجته وذريته إليها .
فإذا تصورت هذه الحال وهذه الحاجة ، فكيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصاب جنته إعصار ، وهي الريح التي تستدير في الأرض ثم ترتفع في طبقات الجو كالعمود وفيه نار ، مرت بتلك الجنة فأحرقتها ، وصيرتها رمادا ، فصدق والله الحسن في قوله:«هذا مثل قل من يعقله من الناس » .
ولهذا نبه الله سبحانه وتعالى على عظم هذا المثل ، وحدا القلوب إلى التفكر فيه لشدة حاجتها إليه . فقال تعالى:{ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون} .
فلو فكر العاقل في هذا المثل وجعله قبلة قلبه لكفاه وشفاه ، فكذلك العبد إذا عمل بطاعة الله ثم أتبعها بما يبطلها ويحرقها من معاصي الله كانت كالإعصار ذي النار المحرق للجنة التي غرسها بطاعته وعمله الصالح .
[ ولولا أن هذه المواضع أهم مما كلامنا بصدده - من ذكر مجرد الطبقات - لم نذكرها ، ولكنها من أهم المهم ، والله المستعان الموفق لمرضاته] .
فلو تصور العامل بمعصية الله بعد طاعته هذا المعنى حق تصوره وتأمله كما ينبغي لما سولت له نفسه والله إحراق أعماله الصالحة وإضاعتها ، ولكن لا بد أن يغيب عنه علمه عند المعصية ، ولهذا استحق اسم الجهل . فكل من عصى الله فو جاهل .
فإن قيل:الواو في قوله تعالى:{ وأصابه الكبر} واو الحال أم واو العطف ؟ وإذا كانت للعطف فعلام عطفت ما بعدها ؟
قلت:فيه وجهان:
أحدهما:أنها واو الحال ، اختاره الزمخشري ، والمعنى:أيود أحدكم أن تكون له جنة شأنها كذا وكذا في حال كبره وضعف ذريته .
والثاني:أن تكون للعطف على المعنى . فإن فعل التمني وهو قوله:{ أيود أحدكم} لطلب الماضي كثيرا . فكان المعنى:أيود لو كانت له جنة من نخيل وأعناب وأصابه الكبر فجرى عليها ما ذكر .
وتأمل كيف ضرب سبحانه المثل للمنفق المرائي الذي لم يصدر إنفاقه عن الإيمان:بالصفوان الذي عليه التراب ، فإنه لم ينبت شيئا أصلا ، بل ذهب بذره ضائعا لعدم إيمانه وإخلاصه ، ثم ضرب المثل لمن عمل بطاعة الله مخلصا بنيته لله ، ثم عرض له ما أبطل ثوابه بالجنة التي هي من أحسن الجنان وأطيبها وأزهرها ، ثم سلط عليها الإعصار الناري فأحرقها . فإن هذا نبت له شيء وأثمر له عمله ، ثم أحرقه ، والأول لم يحصل له شيء يدركه الحريق .
فتبارك من جعل كلامه حياة للقلوب وشفاء للصدور وهدى ورحمة للمؤمنين .