هذا مثل الذي مصدر نفقته عن الإخلاص والصدق . فإن ابتغاء مرضاته سبحانه:هو الإخلاص ، والتثبيت من النفس:هو الصدق في البذل ، فإن المنفق يعترضه عند إنفاقه آفتان إن نجا منهما كان مثله ما ذكره في هذه الآية:
إحداهما:طلبه بنفقته محمدة أو ثناء أو غرضا من أغراضه الدنيوية ، وهذا حال أكثر المنفقين .
والآفة الثانية:ضعف نفسه بالبذل وتقاعسها وترددها . هل يفعل أم لا ؟
فالآفة الأولى:تزول بابتغاء مرضاة الله والآفة . الثانية تزول:بالتثبيت ، فإن تثبيت النفس تشجيعها وتقويتها والإقدام بها على البذل . وهذا هو صدقها .
وطلب مرضاة الله:إرادة وجهه وحده ، وهذا إخلاصها .
فإذا كان مصدر الإنفاق عن ذلك كان مثله كجنة ( وهي البستان الكثير الأشجار ) فهو مجتن بها – أي:مستتر ليس قاعا فارغا .
والجنة بربوة:وهو المكان المرتفع ، لأنها أكمل من الجنة التي بالوهاد والحضيض ، لأنها إذا ارتفعت كانت بدرجة الأهوية والرياح ، وكانت ضاحية للشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها . فكانت أنضج ثمرا وأطيبه وأحسنه وأكثره ، فإن الثمار تزداد طيبا وزكاء بالرياح والشمس ، بخلاف الثمار التي تنشأ في الظلال ، وإذا كانت الجنة بمكان مرتفع لم يخش عليها إلا من قلة الماء والشراب فقال تعالى:{ أصابها وابل} وهو المطر الشديد العظيم القدر ، فأدت ثمرتها وأعطت بركتها ، فأخرجت ثمرها ضعفي ما يثمر غيرها أو ضعفي ما كانت تثمر بسبب ذلك الوابل . فهذا حال السابقين المقربين{ فإن لم يصبها وابل فطل} فهو دون الوابل فهو يكفيها لكرم منبتها وطيب مغرسها فتكتفي في إخراج بركتها بالطل ، وهذا حال الأبرار المقتصدين في النفقة وهم درجات عند الله فأصحاب الوابل أعلاهم درجة . وهم{ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية} [ البقرة:274] ،{ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [ الحشر:9] . وأصحاب الطل:مقتصدوهم .
فمثل حال القسمين وأعمالهم بالجنة على الربوة ، ونفقتهم الكثيرة ( والقليلة ) بالوابل والطل ، وكما أن كل واحد من المطرين يوجب زكاء ثمر الجنة ونحوه بالأضعاف ، فكذلك نفقتهم - كثيرة كانت أو قليلة - بعد أن صدرت عن ابتغاء مرضاة الله والتثبيت من نفوسهم ، فهي زاكية عند الله نامية مضاعفة .
واختلف في الضعفين:
فقيل:ضعفا الشيء مثلاه زائدا عليه ، وضعفه مثله .
وقيل:ضعفه مثلاه ، وضعفاه ثلاثة أمثاله ، وثلاثة أضعافه أربعة أمثاله كلما زاد ضعفا زاد مثلا ، والذي حمل هذا القائل ذلك فراره من استواء دلالة المفرد والتثنية فإنه رأى ضعف الشيء هو مثله الزائد عليه فإذا زاد إلى المثل صار مثلين ، وهما الضعف ، فلو قيل:لها ضعفان . لم يكن فرق بين المفرد والمثنى .
فالضعفان عنده مثلان مضافان إلى الأصل ، ويلزم من هذا أن يكون ثلاثة أضعاف ثلاثة أمثاله مضافة إلى الأصل . وهكذا أبداً .
والصواب:أن الضعفين هما المثلان فقط:الأصل ومثله .
وعليه يدل قوله تعالى:{ فآتت أكلها ضعفين} أي مثلين ، وقوله تعالى:{ يضاعف لها العذاب ضعفين} [ الأحزاب:30] أي مثلين . ولهذا قال في الحسنات:{ نؤتها أجرها مرتين} [ الأحزاب:31] .
وأما ما توهموه من استواء دلالة المفرد والتثنية فوهم منشؤه ظن أن الضعف هو المثل مع الأصل ، وليس كذلك ، بل المثل له اعتباران:إن اعتبر وحده فهو ضعف ، وإن اعتبر مع نظيره فهما ضعفان . والله أعلم .
واختلف في رافع قوله:{ فطل} .
فقيل:هو مبتدأ خبره محذوف ، أي:وطله يكفيها .
وقيل:خبر مبتدأه محذوف تقديره . فالذي يرويها ويصيبها طل ، والضمير في{ أصابها} إما أن يرجع إلى «الجنة » ، أو إلى «الربوة » ، وهما متلازمان .