بعد هذا ضرب الله المثل للمخلصين في الإنفاق لأجل المقابلة بينهم وبين أولئك المرائين والمؤذين وعقبه بمثل آخر يتبين به حال الفريقين فقال:{ ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعلمون بصير * أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون}
يقول ذاك الذي تقدم هو مثل أهل الرياء ، وأصحاب المن والإيذاء ،{ ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم} أي لطلب رضوان الله ولتثبيت أنفسهم وتمكينها في منازل الإيمان والإحسان حتى تكون مطمئنة في بذلها لا ينازعها فيه زلزال البخل ولا اضطراب الحرص لإيثارها حب الخير عن أمر الله على حب المال ، عن هوى النفس ووسوسة الشيطان .وإنما يكون هذا التثبيت بتعويد النفس على البذل حيث يفيد البذل ، حتى يصير الجود لها طبعا وخلقا .وإنما قال:{ من أنفسهم} ولم يقل لأنفسهم لأن إنفاق المال في سبيل الله يفيد بعض التثبيت والطمأنينة ، وإنما كمال ذلك ببذل الروح والمال جميعا في سبيله ، كما قال تعالى في سورة الحجرات{ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} [ الحجرات:15] .وقد هدانا تعليل الانفاق بهاتين العلتين إلى أن نقصد بأعمالنا أمرين .أولهما:ابتغاء رضوانه لذاته تعبدا له .وثانيهما:تزكية أنفسنا وتطهيرها من الشوائب التي تعوقها عن الكمال كالبخل والمبالغة في حب المال .على أن هذا وسيلة لذاك .وفائدة كل من الأمرين عائدة علينا والله غني عن العالمين .فإذا صدقنا في القصدين صدق علينا هذا المثل وكنا في نفع إنفاقنا{ كمثل جنة بربوة} أي بستان بمكان مرتفع من الأرض .
قرأ ابن عامر وعاصم بفتح راء ربوة والباقون بضمها .
قالوا:وما كان كذلك من الجنات كان عمل الشمس والهواء فيه أكمل ، فيكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا .أما الأماكن المنخفضة التي لا تصيبها الشمس في الغالب إلا قليلا فلا تكون كذلك .وقال بعضهم واختاره الإمام الرازي إن المراد بالربوة الأرض المستوية الجيدة التربة بحيث تربو بنزول المطر عليها وتنمو كما قال:{ فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت} [ الحج:5] .ويؤيده كون المثل مقابلا لمثل الصفوان الذي لا يؤثر فيه المطر .
{ أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين} أي فكان ثمرها مثلي ما كانت تثمر في العادة ، أو أربعة أمثاله على القول بأن ضعف الشيء مثله مرتين .والأكل كل ما يؤكل وهو بضمتين وتسكن الكاف تخفيفا ، وبها قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو{ فإن لم يصبها وابل فطل} أي فالذي يصيبها طل ، أو فطل يكفيها لجودة تربيتها وكرم ومنبتها وحسن موقعها .والطل المطر الخفيف المستدق القطر .أقول:وقد عرف بالاختبار أن الأرض الجيدة في الواقع المعتدلة يكفيها القليل من الري لرطوبة ثراها وجودة هوائها فإن الشجر يتغذى من الهواء كما يتغذى من الأرض .والمعنى:أن هذه الجنة أكلها دائم وظلها ، كثر ما يصيبها من المطر أو قل .فإن لم يكن ثمرها مضاعفا لم يكن معدوما ، فإذن لا يكون طلبه قط محروما .
ووجه الشبه عندي أن المنفق ابتغاء مرضاة الله والتثبيت من نفسه هو في إخلاصه وسخاء نفسه وإخلاص قلبه كالجنة الجيدة التربة الملتفة الشجر العظيمة الخصب في كثرة بره وحسنه .فهو يجود بقدر سعته فإن أصابه خير كثير أغدق ووسع في الإنفاق وإن أصابه خير قليل أنفق منه بقدره .فخيره دائم وبره لا ينقطع ، لأن الباعث عليه ذاتي لا عرضي كأهل الرياء وأصحاب المن والإيذاء .هذا ما سبق إلى فهمي عند الكتابة .قالوا:بل والطل على هذا عبارة عن سعة الرزق وما دون السعة .ثم رجعت إلى ما كتبت في مذكرتي عن الأستاذ الإمام فإذا هو قد قال في الدرس أن النية الصالحة في الإنفاق كالوابل للجنة ، فبها تكون النفقة نافعة للناس ، لأن أصحابها يتحرون فيضعون نفقتهم موضع الحاجة لا يبذرون بغير روية .ثم قال عند ذكر الطل:أي إن أمثال هؤلاء المخلصين لا يخيب قاصدهم لأن رحمة قلوبهم لا يغور معينها ، فإن لم تصبه بوابل من عطائها لم يفته طله كالجنة التي لا يخشى عليها اليبس والزوال .
وقد ختم الآية بقوله عز وجل:{ والله بما تعملون بصير} ليذكرنا بأنه لا يخفى عليه الملخص من المرائي تحذيرا لنا من الرياء الذي يتوهم صاحبه أنه يغش الناس بإظهار خلاف ما يضمر .فكأنه يقول الله لا يخفى عليه ما تنطوي عليه سريرتك أيها المنفق فعليك أن تخلص له .