بسم الله الرحمان الرحيم
/م1
{ الر} تقرأ كأمثالها بأسماء الحروف ساكنة لا بمسمياتها فيقال:ألف ، لام ، را ، ومذهب الخليل وسيبويه أنها اسم للسورة ، أو للقرآن [ وبينا حكمة الابتداء بها في أول تفسير سورة الأعراف] ومحلها الرفع على الابتداء أو الخبرية عند الأكثر .
{ كتاب أحكمت آياته} أي هذا كتاب{[1734]} عظيم الشأن [ كما أفاده التنوين] جعلت آياته محكمة النظم والتأليف ، واضحة المعاني بليغة الدلالة والتأثير ، فهي كالحصن المنيع ، والقصر المشيد الرفيع ، في إحكام البناء ، وما يقصد به من الحفظ والإيواء مع حسن الرواء ، فهي لظهور دلالتها على معانيها ووضوحها لا تقبل شكا ولا تأويلا ، ولا تحتمل تغييرا ولا تبديلا ،{ ثم فصلت} أي جعلت فصولا متفرقة في سورة ببيان حقائق العقائد ، والأحكام والحكم والمواعظ ، وسائر ما أنزل الكتاب له من الفوائد ، كما يفصل الوشاح أو العقد بالفرائد ، فالأحكام والتفصيل فيه مرتبتان من مراتب البيان مجتمعتان ، لا نوعان منه متفرقان يختلفان في الزمان ، أو فصلت بعد الإجمال ، كما ترى في القصص القصار والطوال ، وقد أبهما ببناء فعليهما للمفعول ، ثم بينا بجعلهما{ من لدن حكيم خبير} وهو أبلغ من إسنادهما إليه ابتداء ، أي من عند حكيم كامل الحكمة هو الذي أحكمها ، وخبير تام الخبرة هو الذي فصلها ، ولدن طرف مكان أخص من"عند "وأبلغ .وهو بفتح فضم [ كعضد] مبني على السكون .
هذا ما يتبادر إلى فهم العربي القح من عبارة الآية ، فإذا عرضته على ما جاء في القرآن من حرفي الأحكام والتفصيل وجدت فيه من الحرف الأول ثلاثة كلمات:الأولى قوله تعالى في سورة الحج{ فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته} [ الحج:5] ، والثانية:قوله تعالى في سورة القتال ويقولون{ لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال} [ محمد:20] الآية ، والثالثة قوله تعالى في سورة آل عمران{ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} [ آل عمران:7] ووجدت الأحكام في كل منهن بالمعنى اللغوي الذي بيناه آنفا .وقد حمل المقلدون المحكم في الآية الثانية على ما يقابل المنسوخ في اصطلاحهم ، فقالوا سورة محكمة غير منسوخة ، وهذا الحمل غير صحيح وإن كان المراد منه صحيحا ، فإن هذا الاصطلاح ليس من أصل اللغة ولا من عرف القرآن ، بل وضع بعد عصر نزوله ، والآية الأولى حجة على هذا فإن النسخ فيها غير النسخ الأصولي ، ولا يصح أن يكون المعنى فإذا أنزلت سورة غير منسوخة لا كلها ولا بعضها ، لأن إنزال سورة منسوخة محال في نفسه ، فلا معنى إذا لنفيه ، وحملوه في الثالثة على ما يقابل المتشابه وهو صحيح ، ولكنهم اختلفوا في معنى كل منهما وأشهر الأقوال عند أهل الكلام والأصول فيهما مخالف لمدلول اللغة وللمروي عن جمهور السلف الذي هو الحق .
قال السيد الجرجاني في الأول:المحكم ما أحكم المراد به عن التبديل والتغيير أي التخصيص والتأويل والنسخ ، مأخوذ من قولهم:بناء محكم ، أي متقن مأمون الانتقاض ، وذلك مثل قوله تعالى:{ إن الله بكل شيء عليم} [ التوبة:115] والنصوص الدالة على ذات الله وصفاته لأن ذلك لا يحتمل النسخ ، فإن اللفظ إذا ظهر منه المراد فإن لم يحتمل النسخ فهو محكم ، وإلا فإن لم يحتمل التأويل فمفسر ، وإلا فإن سيق الكلام لأجل ذلك المراد فنص ، وإلا فظاهر ، وإذا خفي لعارض أي لغير الصيغة فخفي ، وإن خفي لنفسه أي لنفس الصيغة وأدرك عقلا فمشكل ، أو نقلا فمجمل ، أو لم يدرك أصلا فمتشابه اه .وقال في الثاني:المتشابه ما خفي بنفس اللفظ ولا يرجى دركه أصلا ، كالمقطعات في أول السور ، وقال التاج السبكي في جمع الجوامع:والمتشابه ما استأثر الله بعلمه وقد يطلع عليه بعض أصفيائه اه .وكلا القولين خطأ كما يعلم مما فسرنا به الآية في الجزء الثاني .
وقال السيد في تعريف التأويل:هو في الأصل الترجيح وفي الشرع صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله إذا كان المحتمل الذي يراه موافقا بالكتاب والسنة مثل قوله تعالى:{ يخرج الحي من الميت} [ الأنعام:95] إن أراد به إخراج الطير من البيضة كان تفسيرا ، وإن أراد إخراج المؤمن من الكافر أو العالم من الجاهل كان تأويلا اه .وقال التاج السبكي:الظاهر ما دل دلالة ظنية ، والتأويل حمل الظاهر على المحتمل المرجوح ، فإن حمل لدليل أو لما يظن دليلا ففاسد ، أو لا لشيء فلعب لا تأويل ه .
هذا الاصطلاح المفصل لهذه الكلمات فيه ما ترى –في كتب الأصول- من قيل وقال ، ومذاهب وجدال ، وهو ما لم يكن يخطر في بال أحد من العرب عند قراءتها في كتاب الله تعالى ، بل كانوا يفهمونها بمدلولها اللغوي المحض ، فأما المحكم فهو ما تقدم .
وأما التفصيل في الآية فقد جاء مكررا في أكثر من عشرين موضعا من عشر سور مكية ، وفي موضع واحد من سورة التوبة المدنية ، وأكثر في تفصيل الآيات القرآنية والعقلية ، وبعضها في تفصيل الكتاب ، وبعض آخر في تفصيل الأحكام ، ونوع آخر أعم وهو [ تفصيل كل شيء] أي ما يتعلق بهداية الدين ، وإصلاح أمور المكلفين ، وكلها داخل في المعنى اللغوي الذي حررناه .
بقي علينا المأثور في الكلمتين عن مفسري السلف ، وهو قليل مختصر ، فعن ابن زيد في هذه السورة [ قال]:إنها كلها مكية محكمة ، وإن التفصيل فيها هو الحكم بين محمد صلى الله عليه وسلم ومن خالفه في قوله تعالى:{ مثل الفريقين كالأعمى والأصم} [ هود:24] الآية ، ثم ذكر قوم نوح وقوم هود قال:فكان هذا تفصيل ذلك وكان أوله محكما اه بالمعنى وحاصله أن المحكم المجمل وأن المفصل ما يقابله بالمعنى اللغوي فيهما ، وعن الحسن البصري:أحكمت بالأمر والنهي ، وفصلت بالوعد والوعيد ، وعن مجاهد [ ثم فصلت] قال فسرت ، وعن قتادة أحكمها الله من الباطل ثم فصلها الله بعلمه ، فبين حلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته ، وهذه الروايات كلها تدخل في المعنى اللغوي الذي بيناه ولا تحيط به .
والقول الجامع أن تفصيل الإجمال في القرآن قسمان:الأول تفصيل أصول العقائد وكليات التشريع العامة ، وأكثره في السور المكية ، كما بيناه متفرقا ثم مجملا في تفسير ما تقدم تفسيره منها ، وهو الأنعام والأعراف ويونس ، والثانية ما يعم تفصيل الأحكام العملية من العبادات والمعاملات السياسية والمدنية والحربية كما بيناه في السور المدنية الطوال المتقدمة أيضا .