قوله تعالى:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} .
اعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالحروف المقطعة في أوائل السور اختلافاً كثيراً ،واستقراء القرآن العظيم يرجح واحداً من تلك الأقوال ،وسنذكر الخلاف المذكور وما يرجحه القرآن منه بالاستقراء فنقول ،وبالله جل وعلا نستعين:
قال بعض العلماء: هي مما استأثر الله تعالى بعلمه ؛كما بيناه في «آل عمران » وممن روي عنه هذا القول: أبو بكر ،وعمر ،وعثمان .وعلي ،وابن مسعودرضي الله عنهموعامر والشعبي ،وسفيان الثوري ،والربيع بن خيثم ،واختاره أبو حاتم بن حبان .
وقيل: هي أسماء للسور التي افتتحت بها .وممن قال بهذا القول: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم .ويروى ما يدل لهذا القول عن مجاهد ،وقتادة ،وزيد بن أسلم .قال الزمخشري في تفسيره: وعليه إطباق الأكثر .ونقل عن سيبويه أنه نص عليه .ويعتضد هذا القول بما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة{الم} السجدة ،و{هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} .
ويدل له أيضاً قول قاتل محمد السجاد ابن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما يوم الجمل ،وهو شريح بن أبي أوفى العبسي ؛كما ذكره البخاري في صحيحه في أول سورة المؤمن:
يذكرني حاميم والرمح شاجر ***فهلا تلا حاميم قبل التقدم
وحكى ابن إسحاق أن هذا البيت للأشتر النخعي قائلاً: إنه الذي قتل محمد بن طلحة المذكور .وذكر أبو مخنف: أنه لمدلج بن كعب السعدي .ويقال كعب بن مدلج .وذكر الزبير بن بكار: أن الأكثر على أن الذي قتله عصام بن مقشعر .قال المرزباني: وهو الثبت ،وأنشد له البيت المذكور وقبله:
وأشعث قوام بآيات ربه *** قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
هتكت له بالرمح جيب قميصه *** فخر صريعاً لليدين وللفم
على غير شيء غير أن ليس تابعا*** علياً ومن لا يتبع الحق يندم
يذكرني حاميم ...البيت .امن فتح الباري .
فقوله: «يذكرني حاميم » ،بإعراب «حاميم » إعراب ما لا ينصرففيه الدلالة على ما ذكرنا من أنه اسم للسورة .
وقيل: هي من أسماء الله تعالى .وممن قال بهذا: سالم بن عبد الله ،والشعبي ،وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير ،وروي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما وعنه أيضاً: أنها أقسام أقسم الله بها ،وهي من أسمائه .وروي نحوه عن عكرمة .
وقيل: هي حروف ،كل واحد منها من اسم من أسمائه جل وعلا .فالألف من «الم » مثلاً: مفتاح اسم الله ،واللام مفتاح اسمه لطيف ،والميم: مفتاح اسمه مجيد ،وهكذا .ويروى هذا عن ابن عباس ،وابن مسعود ،وأبي العالية .واستدل لهذا القول بأن العرب قد تطلق الحرف الواحد من الكلمة ،وتريد به جميع الكلمة كقول الراجز: قلت لها قفي فقالت لي قاف*** لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف
فقوله: «قاف » أي وقفت .وقول الآخر:
بالخير خيرات وإن شراً فا **ولا أريد الشر إلا أن تا
يعني: وإن شراً فشر ،ولا أريد الشر إلا أن تشاء .فاكتفى بالفاء والتاء عن بقية الكلمتين .
قال القرطبي: وفي الحديث «من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة » الحديث .قال سفيان: هو أن يقول في أقتل: أ ق ؛إلى غير ما ذكرنا من الأقوال في فواتح السور ،وهي نحو ثلاثين قولاً .
أما القول الذي يدل استقراء القرآن على رجحانه فهو: أن الحروف المقطعة ذكرت في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن ،وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها .وحكى هذا القول الرازي في تفسيره عن المبرد ،وجمع من المحققين ،وحكاه القرطبي عن الفراء وقطرب ،ونصره الزمخشري في الكشاف .
قال ابن كثير: وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية ،وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي ،وحكاه لي عن ابن تيمية .
ووجه شهادة استقراء القرآن لهذا القول: أن السور التي افتتحت بالحروف المقطعة يذكر فيها دائماً عقب الحروف المقطعة الانتصار للقرآن وبيان إعجازه ،وأنه الحق الذي لا شك فيه .
وذكر ذلك بعدها دائماً دليل استقرائي على أن الحروف المقطعة قصد بها إظهار إعجاز القرآن ،وأنه حق .
قال تعالى في البقرة:{الم} [ البقرة: 1] واتبع ذلك بقوله{ذَالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [ البقرة:2] وقال في آل عمران{الم} [ آل عمران:1] واتبع ذلك بقوله:{اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم [ 2] مُنَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} .[ آل عمران: 2-3] الآية .وقال في الأعراف:{المص} [ الأعراف:1] ثم قال:{كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} [ الأعراف: 2] الآية .وقال في سورة يونس:{الر} ثم قال:{تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [ يونس:1] وقال في هذه السورة الكريمة التي نحن بصددهاأعني سورة هود{الر} ثم قال:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [ هود:1] ،وقال في يوسف:{الر} ثم قال:{تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [ يوسف:1]{إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [ يوسف:2] الآية .وقال في الرعد:{المر} ثم قال:{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ} [ الرعد: 1] ،وقال في سورة إبراهيم{الر} ثم قال:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [ إبراهيم:1] الآية .وقال في الحجر:{الرَ} ثم قال{تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءَانٍ مُّبِينٍ} [ الحجر:1] وقال في سورة طه{طه} [ طه:1] ثم قال:{مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى} [ طه:2] وقال في الشعراء:{طسم} [ الشعراء:1] ثم قال{تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِين ِلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} [ الشعراء:2-3] الآية .وقال في النمل:{طس} ثم قال{تِلْكَ ءَايَاتُ الْقُرْءَانِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ} [ النمل:1-2] وقال في القصص{طسم} [ القصص: 1] ثم قال{تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [ القصص:2]{نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} [ القصص:3] الآية .وقال في لقمان{الم} [ لقمان:1] ثم قال{تِلْكَ ءاَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [ لقمان:2]{هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ}[ لقمان:3] وقال في السجدة{الم} [ السجدة:1] ثم قال{تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [ السجدة:2] وقال في يس{يس} [ يس:1] ثم قال{وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ} [ يس:2] وقال في ص{وَالْقُرْءَانِ ذي الذِّكْرِ} [ ص:1] الآية .وقال في سورة المؤمن{حم} [ المؤمن:1] ثم قال{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [ المؤمن:2] الآية .
وقال في فصلت{حم} [ فصلت:1] ثم قال{تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَانِ الرَّحِيم ِكِتَابٌ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [ فصلت:2-3] الآية وقال في الشورى{حم عسق} [ الشورى:1-2] ثم قال{كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ} [ الشورى:3] وقال في الزخرف{حم} [ الزخرف:1] ثم قال{وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً} [ الزخرف:2-3] الآية وقال في الدخان{حم} [ الدخان:1] ثم قال{وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [ الدخان:2-3] وقال في الجاثية{حم} [ الجاثية:1] ثم قال{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ في السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [ الجاثية:2-3] وقال في الأحقاف{حم} [ الأحقاف: 1] ثم قال:{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ} ( الأحقاف: 2-3 ) الآية .وقال في سورة ق{ق} ثم قال{وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ} [ ق:1] الآية .
وقد قدمنا كلام الأصوليين في الاحتجاج بالاستقراء بما أغنى عن إعادته هنا .
وإنما أخرنا الكلام على الحروف المقطعة مع أنه مرت سور مفتتحة بالحروف المقطعة كالبقرة ،وآل عمران ،والأعراف ،ويونس ؛لأن الحروف المقطعة في القرآن المكي غالباً ،والبقرة ،وآل عمران مدنيتان والغالب له الحكم ،واخترنا لبيان ذلك سورة هود ؛لأن دلالتها على المعنى المقصود في غاية الظهور والإيضاح ؛لأن قوله تعالى{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} بعد قوله{الر} واضح جداً فيما ذكرنا ،والعلم عند الله تعالى .