قوله تعالى:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى} [ 1 -4] .
اختلف العلماء في المراد بهذا النجم الذي أقسم الله به في هذه الآية الكريمة ،فقال بعضهم: المراد به النجم إذا رجمت به الشياطين ،وقال بعضهم: إن المراد به الثريا ،وهو مروي عن ابن عباس وغيره ،ولفظة النجم علم للثريا بالغلبة ،فلا تكاد العرب تطلق لفظ النجم مجرداً إلا عليها ،ومنه قول نابغة ذبيان:
أقول والنجم قد مالت أواخره *** إلى المغيب تثبت نظرة حار
فقوله:{وَالنَّجْمِ}: يعني الثريا .
وقوله تعالى{إِذَا هَوَى}: أي أسقط مع الصبح ،وهذا اختيار ابن جرير .وقيل النجم: الزهرة ،وقيل المراد بالنجم نجوم السماء ،وعليه فهو من إطلاق المفرد وإرادة الجمع كقوله:{وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [ القمر: 45] يعني الأدبار .وقوله:{وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [ الفجر: 22] أي والملائكة .وقوله:{أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ} [ الفرقان: 75] أي الغرف .
وقد قدمنا أمثلة كثيرة لهذا في القرآن ،وفي كلام العرب في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى:{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [ الحج: 5] ،وإطلاق النجم مراداً به النجوم معروف في اللغة ،ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
ثم قالوا تحبها قلت بهرا *** عدد النجم والحصى والتراب
وقول الراعي:
فباتت تعد النجم في مستحيرة *** سريع بأيدي الآكلين جمودها
وعلى هذا القول ،فمعنى هوى النجوم سقوطها إذا غربت أو انتثارها يوم القيامة .وقيل: النجم النبات الذي لا ساق له .وقال بعض أهل العلم: المراد بالنجم الجملة النازلة من القرآن ،فإنه نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أنجماً منجماً في ثلاث وعشرين سنة ،وكل جملة منه وقت نزولها يصدق عليها اسم النجم صدقاً عربياً صحيحاً كما يطلق على ما حان وقته من الدية المنجمة على العاقلة ،والكتابة المنجمة على العبد المكاتب .
وعلى هذا فقوله:{إِذَا هَوَى} ،أي نزل به الملك من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم .وقوله{هَوَى} يهوي هُوياً إذا اخترق الهوى نازلاً من أعلا إلى أسفل .
اعلم أولاً أن القول بأنه الثريا وأن المراد بالنجم خصوصها ،وإن اختاره ابن جرير وروي عن ابن عباس وغير واحد ،ليس بوجيه عندي .
والأظهر أن النجم يراد به النجوم .وإن قال ابن جرير بأنه لا يصح ،والدليل على ذلك جمعه تعالى للنجوم في القسم في قوله تعالى:{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [ الواقعة: 75] ،لأن الظاهر أن المراد بالنجم إذا هوى هنا ،كالمراد بمواقع النجوم في الواقعة .
وقد اختلف العلماء أيضاً في المراد بمواقع النجوم فقال بعضهم: هي مساقطها إذا غابت .وقال بعضهم: انتثارها يوم القيامة .وقال بعضهم: منازلها في السماء ،لأن النازل في محل واقع فيه .وقال بعضهم: هي مواقع نجوم القرآن النازل بها الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر الأقوال عندي وأقربها للصواب في نظري ،أن المراد بالنجم إذا هوى هنا في هذه السورة ،وبمواقع النجوم في الواقعة هو نجوم القرآن التي نزل بها الملك نجماً فنجماً ،وذلك لأمرين أحدهما أن هذا الذي أقسم الله عليه بالنجم إذا هوى الذي هو أن النبي صلى الله عليه وسلم على حق وأنه ما ضل وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى موافق في المعنى لما أقسم عليه بمواقع النجوم ،وهو قوله:{إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ في كِتَابٍ مَّكْنُونٍ}إلى قوله{تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [ الواقعة: 77-80] .
والإقسام بالقرآن على صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صدق القرآن العظيم وأنه منزل من الله جاء موضحاً في آيات من كتاب الله كقوله تعالى:{يس وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيم ِإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم ٍتَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [ يس: 1 -5] .وقوله تعالى:{حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ في أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ} [ الزخرف: 1-4] وخير ما يفسر به القرآن القرآن .
والثاني: أن كون المقسم به المعبر بالنجوم ،هو القرآن العظيم أنسب لقوله بعده:
{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [ الواقعة: 76] ،لأن هذا التعظيم من الله يدل على أن هذا المقسم به في غاية العظمة .
ولا شك أن القرآن الذي هو كلام الله أنسب لذلك من نجوم السماء ونجم الأرض .والعلم عند الله تعالى .