قوله تعالى:{أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} .
هذه الآية الكريمة فيها الدلالة الواضحة على أن الحكمة العظمى التي أنزل القرآن من أجلها: هي أن يعبد الله جل وعلا وحده ،ولا يشرك به في عبادته شيء ،لأن قوله جل وعلا:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ} الآيةصريح في أن آيات هذا الكتاب فصلت من عند الحكيم الخبير لأجل أن يعبد الله وحده ،سواء قلنا إن «أن » هي المفسرة .أو أن المصدر المنسبك منها ومن صلتها مفعول من أجله ،لأن ضابط «أن » المفسرة أن يكون ما قبلها متضمناً معنى القول ،ولا يكون فيه حروف القول .
ووجهه في هذه الآية أن قوله:{أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} فيه معنى قول الله تعالى لذلك الإحكام والتفصيل دون حروف القول ،فيكون تفسير ذلك هو:{أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ} .
وأما على القول بأن المصدر المنسبك من «أن » وصلتها مفعول له فالأمر واضح ،فمعنى الآية: أن حاصل تفصيل القرآن هو أن يعبد الله تعالى وحده ولا يشرك به شيء .ونظير هذا المعنى قوله تعالى في سورة الأنبياء:{قُلْ إِنَّمَآ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} [ الأنبياء: 108] ومعلوم أن لفظة «إنما » من صيغ الحصر ،فكأن جميع ما أوحي إليه منحصر في معنى «لا إله إلا الله » وقد ذكرنا في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب » .أن حصر الوحي في آية الأنبياء هذه في توحيد العبادة حصر له في أصله الأعظم الذي يرجع إليه جميع الفروع ،لأن شرائع الأنبياء كلهم داخلة في ضمن معنى «لا إلاه إلا الله » لأن معناها .خلع جميع المعبودات غير الله جل وعلا في جميع أنواع العبادات ،وإفراده جل وعلا وحده بجميع أنواع العبادات ،فيدخل في ذلك جميع الأوامر والنواهي القولية والفعلية والاعتقادية .
والآيات الدالة على أن إرسال الرسل ،وإنزال الكتب لأجل أن يعبد الله وحده كثيرة جداً ،كقوله:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ} [ النحل: 36] ،وقوله:{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} [ الأنبياء: 25] ،وقوله:{وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَانِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ} [ الزخرف:35] إلى غير ذلك من الآيات .
وقد أشرنا إلى هذا البحث في سورة الفاتحة ،وسنستقصي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في سورة «النَّاس » ،لتكون خاتمة هذا الكتاب المبارك حسنى .
قوله تعالى:{وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [ الآية:3] .
هذه الآية الكريمة تدل على أن الاستغفار والتوبة إلى الله تعالى من الذنوب سبب لأن يمتع الله من فعل ذلك متاعاً حسناً إلى أجل مسمى .لأنه رتب ذلك على الاستغفار والتوبة ترتيب الجزاء على شرطه .
والظاهر أن المراد بالمتاع الحسن .سعة الرزق ،ورغد العيش ،والعافية في الدنيا ،وأن المراد بالأجل المسمى: الموت ،ويدل لذلك قوله تعالى في هذه السورة الكريمة عن نبيه هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام:{وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [ هود:52] وقوله تعالى عن نوح:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مُدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} [ نوح: 10-12] وقوله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواةً طَيِّبَةً} [ النحل:97] الآية .وقوله:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأرْضِ} [ الأعراف: 96] الآية .وقوله:{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} [ المائدة: 66] وقوله{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجا ًوَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [ الطلاق:2-3] إلى غير ذلك من الآيات .